28- واذكر - أيها الرسول - هوْل الموقف ، يوم نجمع الخلائق كافة ، ثم نقول للذين أشركوا في عبادتهم مع الله غيره : قفوا مكانكم أنتم ومن اتخذتموهم شركاء من دون الله ، حتى تنظروا ما يفعل بكم ، فوقعت الفرقة بين المشركين والشركاء ، وتبرأ الشركاء من عابديهم ، قائلين لهم : لم ندعكم إلى عبادتنا ، وما كنتم تعبدوننا ، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من الأقوال التي تدور بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة ، فقال - تعالى - :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ . . . } .
قوله : { نَحْشُرُهُمْ } أي نجمعهم يوم القيامة للحساب ، يقال : حشر القائد جنده ، إذا جمعهم للحرب أو لأمر من الأمور .
ويوم ظرف زمان منصوب بفعل مقدر .
والمعنى : واذكر أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل ، يوم نجمع الناس كافة ، لنحاسبهم على أعمالهم في الدنيا .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُم } أي : ثم نقول لمشركين منهم في هذا اليوم العصيب ، الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم فلا تبرحوه حتى يقضى الله قضاؤه ، فيكم ، فقوله : { مكانكم } ظرف مكان منصوب بفعل مقدر ، وقوله { وَشُرَكَآؤُكُمْ } معطوف على ضمير الفعل المقدر ، وقوله { أنتم } تأكيد له . أى قفوا مكانكم أنتم وشركاؤكم .
وجاء العطف بثم ، للإِشارة إلى أن بين حشرهم ويبن ما يقال لهم ، مواقف أخرى فيها من الأهوال ما فيها ، فثم هنا للتراخي النسبي .
وقال - سبحانه - { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } مع أن المشركين كانوا يعتبرون معبوداتهم شركاء الله - من باب التهكم بهم . وللإِشارة إلى أن ما عبدوهنم لم يكونوا في يوم من الأيام شركاء لله ، وإنما المشركون هم الذين وصفوهم بذلك افتراء وكذاب .
وجاء وصفهم بالشرك في حيز الصلة ، للإِيذان بأنه أكبر جناياتهم ؛ وأن شركهم بالله - تعالى - هو الذي أدى بهم إلى هذا المصير المؤلم .
وقوله : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أى : ففرقنا بينهم ، وقطعنا ما بينهم من صلات ، وميزنا بعضهم عن بعض كما يميز بين الخصوم عند التقاضى والمساءلة .
وزيلنا : من التزييل بمعنى التمييز والتفريق ، يقال : زيلت الشيء أزيله إذا نحيته وأبعدته ، ومنه قوله - تعالى - : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أى : لو تميزوا وتفرقوا .
وعبر بإلفاء للدلالة على أن هذا التفريق والتمييز ؛ قد حدث عقب الخطاب من غير مهلة وجاء الأسلوب بصيغة الماضى مع أن هذا التذييل سيكون في الآخرة ، للإِيذان بتحقيق الوقوع ، وإلى زيادة التوبيخ والتحسير لهم .
وقوله : { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } معطوف على ما قبله .
والمراد بالشركاء ؛ كل ما عبد من دون الله من إنس وجن وأوثان وغير ذلك .
أى : وقال شركاؤهم الذين أشركوهم في العبادة مع الله - تعالى - : إنكم إيها المشركون لم تكونوا لنا عابدين في الدنيا ، وإنما كنتم تعبدون أشياء أخرى زينها الشيطان لكم ؛ فانقذتم له بدون تدبر أو تعقل .
والمقصود بقولهم هذا - التبري من المشركين ، وتوبيخهم على أفكارهم الفاسدة .
يقول تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي : أهل الأرض كلهم ، من إنس وجن{[14206]} وبر وفاجر ، كما قال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [ الكهف : 47 ] .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } أي : الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا ، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين ، كما قال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] ، وقال { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وفي الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي : يصيرون صِدعين ، وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء ؛ ولهذا قيل : ذلك{[14207]} يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا ، وفي الحديث الآخر : " نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس . {[14208]} -{[14209]}
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين{[14210]} وأوثانهم يوم القيامة : { مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } أنكروا عبادتهم ، وتبرءوا منهم ، كما قال تعالى : { [ كَلا ] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } الآية . [ مريم : 82 ] {[14211]} . وقال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [ البقرة : 166 ] ، وقال { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مّا كُنتُمْ إِيّانَا تَعْبُدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعا ، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الاَلهة والأنداد : مكانكم أي امكثوا مكانكم ، وقفوا في موضعكم أنتم أيها المشركون ، وشركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الاَلهة والأوثان . فَزَيّلْنا بَيْنَهُمْ يقول : ففرّقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به وبين غيره وأبنته منه . وقال : «فزيلنا » إرادة تكثير الفعل وتكريره . ولم يقل : «فزلنا بينهم » . وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه : «فزايلنا بينهم » ، كما قيل : وَلا تُصعّرْ خَدّكَ و«لا تصاعر خدّك » ، والعرب تفعل ذلك كثيرا في فعلت ، يلحقون فيها أحيانا ألفا مكان التشديد ، فيقولون : فاعلت إذا كان الفعل لواحد . وأما إذا كان لاثنين فلا تكاد تقول إلا فاعلت . وقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ أيّانا تَعْبُدُونَ وذلك حين تَبرّأ الّذِينِ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وَرَأوُا الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسبابُ لما قيل للمشركين اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله ، ونصبت لهم آلهتهم ، قالوا : كنا نعبد هؤلاء ، فقالت الاَلهة لهم : ما كنتم إيانا تعبدون . كما :
حُدثت عن مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يكون يوم القيامة ساعة فيها شدّة تنصب لهم الاَلهة التي كانوا يعبدون ، فيقال : هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله ، فتقول الاَلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا فيقولون : والله لإياكم كنا نعبد فتقول لهم الاَلهة : فَكَفى بِاللّهِ شَهِيدا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إنْ كُنّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا ثُمّ نَقُولُ للّذِينَ أشْرَكُوا مَكانَكُمْ أنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُم فَزَيّلْنا بَيْنَهُمْ قال : فرّقنا بينهم . وَقالَ شُركاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ قالوا : بلى قد كنا نعبدكم ، ( ف ) قالوا كَفَى باللّهِ شَهِيدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ إنْ كُنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم . فقال الله : هُنالك تَبْلُو كُلّ نَفْس ما أسْلَفَتْ . . . الآية .
ورُوي عن مجاهد ، أنه كان يتأوّل الحشر في هذا الموضع : الموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، قال : سمعتهم يذكرون عن مجاهد ، في قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا قال : الحشر : الموت .
والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم ، ومعلوم أن ذلك غير كائن في القبر ، وأنه إنما هو خبر عما يقال لهم ويقولون في الموقف بعد البعث .
هذه الجملة معطوفة على جملة { والذين كسبوا السيئات } [ يونس : 27 ] باعتبار كونها معطوفة على جملة { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] فإنه لما ذكر في الجملتين السابقتين ما يختص به كل فريق من الفريقين من الجزاء وسماته جاءت هذه الجملة بإجمالِ حالةٍ جامعةٍ للفريقين ثم بتفصيل حَالة يمتاز بها المشركون ليحصل بذلك ذكر فظيع من أحوال الذين بلغوا الغاية في كسب السيئات ، وهي سيئة الإشراك الذي هو أكبر الكبائر ، وبذلك حصلت المناسبة مع الجملة التي قبلها المقتضية عطفها عليها .
والمقصود من الخبر هو ذكر حشرهم جميعاً ، ثم ما يقع في ذلك الحشر من افتضاح الذين أشركوا ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال ، ونحشرهم جميعاً . وإنما زيد لفظ { يوم } في صدر الجملة لأن ذلك اليوم لما كان هو زمن الحشر وأعمالٍ عظيمة أريد التذكير به تهويلاً وموعظة .
وانتصاب { يوم نحشرهم } إما على المفعولية بتقدير : اذْكر ، وإما على الظرفية لفعل مقدر يدل عليه قوله : { ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } والتقدير : ونقول للذين أشركوا مكانكم يوم نحشر الناس جميعاً . وضمير { نحشرهم } للذين تقدم الكلام عليهم وهم الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئات . وقوله : { جميعاً } حال من الضمير البارز في { نحشرهم } للتنصيص على إرادة عموم الضمير . وذلك أن الحشر يعم الناس كلهم . ومن نكت ذِكر حشر الجميع هُنا التنبيهُ على أن فظيعَ حال المشركين وافتضاحهم يكون بمرأى ومسمع من المؤمنين ، فتكون السلامة من تلك الحالة زيادة في النعمة على المسلمين وتقوية في النكاية للمشركين .
والحشر : الجمع من أمكنة إلى مكان واحد . وتقدم في قوله تعالى : { وحشرنا عليهم كل شيء } في سورة [ الأنعام : 111 ] .
وقوله : { مكانَكم } منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره : الزموا مكانكم ، واستعماله هذا شائع في كلام العرب في الأمر بالملازمة مع التزام حذف العامل فيه حتى صار بمنزلة أسماء الأفعال الموضوعة للأمر ، نحو : صَهْ ، ويقترن بضمير مناسب للمخاطب من إفراد وغيره ، قال عمرو بن الأطنابة :
وأمرُهم بملازمة المكان تثقيف وحَبس . وإذ قد جمع فيه المخاطَبون وشركاؤهم عُلِم أن ذلك الحبس لأجل جريمة مشتركة بين الفريقين ، وهي كون أحد الفريقين عابداً والآخرِ معبوداً .
وقوله : { أنتم } تأكيد للضمير المتصل المقدر في الفعل المقدر ، وهو المسوغ للعطف عليه وبهذا العطف صار الشركاء مأمورين باللبث في المكان .
والشركاء : الأصنام . وصفوا بالشركاء لاعتقاد المخاطبين ذلك ، ولذلك أضيف إلى ضميرهم ، أي أنتم والذين زَعمتم أنهم شركاء . فإضافة شركاء إلى ضمير المخاطبين تهكم .
وعطف { فزيلْنا } بفاء التعقيب لإفادة حصول ذلك في عقب وقت الأمر باللبث . ولما كانت الفاء تقتضي الترتيب الزمني في حصول معطوفها إثر المعطوف عليه وكان المقصود هنا أن التزييل حصل مقارناً لإلزامهم المكان عبر عن فعل التزييل بصيغة الماضي لإفادة تحقيق وقوع التزييل كقوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .
وزيَّل : مضاعف زال المتعدي . يقال : زَاله عن موضعه يَزِيله بمعنى أزاله فجعلوه يائي العين للتفرقة بينه وبين زال القاصر الذي هو واوي العين ، فزيَّل فعل للمبالغة في الزيْل مثل فَرَّق مبالغة في فرق . والمعنى وقع بينهم تفريق قوي بحيث انقطعت جميع الوِصَل التي كانت بينهم . والتزييل هنا مجازي فيشمل اختلاف القول .
وتعليق التزييل بالأصنام باعتبار خلق معناه فيها حين أنطقها الله بما يخالف زعم عبّادها .
وجملة { وقال شركاؤهم } عطف على جملة : { فزيلنا } فهو في حيز التعقيب ، ويجوز جعلها حالاً .
ويقول الشركاء هذا الكلام بخَلق نطق فيها خارق للعادة يفهمه الناس لإشعار أولئك العابدين بأن أصنامهم تبرأوا منهم ، وذلك مما يزيدهم ندامة . وكلام الأصنام يفيد نفي أن يكونوا عبدوهم بل عبدوا غيرهم . وفي استقامة ذلك إشكال لأن الواقع أنهم عبدوهم وعبدوا غيرهم فكيف ينفي كلامهم عبادتهم إياهم وهو كلام خلقه الله فيهم فكيف يكون كذباً . وقد تأول المفسرون هذا بوجوه لا ينثلج لها الصدر .
والذي ظهر لي أن يكون آخر كلام الأصنام مُبيناً لما أجمله أوله بأنهم نفوا أن يكونوا عبدوهم عبادةً كاملة وهي العبادة التي يقصِد منها العابد امتثال أمر المعبود وإرضاءه فتقتضي أن يكون المعبود عالماً وآمراً بتلك العبادة . ولما كانت الأصنام غير عالمين ولا آمرين استقام نَفْيهم أن يكون عبدتهم قد عبدوهم تلك العبادة وإنما عبدوا غيرهم ممن أمروهم بالعبادة وهم الشياطين ولذلك قالوا : { إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين } كما تفسره الآية الأخرى وهي قوله تعالى : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبُدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 40 ، 41 ] .
فالمراد بالشركاء الأصنام لا غيرها ، ويجوز أن يكون نُطقها بجحد عبادة المشركين هو أن خلق لها عقولاً فكانت عقولها مستحدثة يومئذٍ لم يتقرر فيها علم بأن المشركين عَبدوها . ويفسر هذا قولهم بعد ذلك { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم نحشرهم جميعا} يعني الكفار وما عبدوا من دون الله،
{ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم} يعني بهم الآلهة،
{فزيلنا بينهم} يعنى فميزنا بين الجزاءين،
{وقال شركاؤهم} يعني الآلهة وهم الأصنام: {ما كنتم إيانا تعبدون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعا، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهة والأنداد:"مكانكم" أي: امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم "أنتم "أيها المشركون "وشركاؤكم" الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان. "فَزَيّلْنا بَيْنَهُمْ" يقول: ففرّقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به، من قولهم: زِلْت الشيء أزيلُه، إذا فرّقت بينه وبين غيره وأبَنْتُه منه. وقال: «فزيلنا» إرادة تكثير الفعل وتكريره. ولم يقل: فزلنا بينهم. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرأه: «فزايلنا بينهم»، كما قيل: "وَلا تُصعّرْ خَدّكَ" و "لا تصاعر خدّك"... "وقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إيّانا تَعْبُدُونَ" وذلك حين "تَبرّأ الّذِينِ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وَرَأوُا الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسبابُ" لما قيل للمشركين اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: كنا نعبد هؤلاء، فقالت الآلهة لهم: "ما كنتم إيانا تعبدون"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
سماهم شركاء، وإن لم يكونوا شركاء في الحقيقة لما عندهم أنهم شركاء كما سمى الأصنام آلهة لما عندهم أنهم آلهة.
والثاني: (شركاؤهم) لما أشركوها في العبادة، فهم شركاؤهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي الجملة.. يتبرأ بعضُهم مِنْ بعض، ويذوقُ كلُّ وبالَ فِعْلِه. وفائدةُ هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبالٌ عليهم؛ فاشتغالُهم -اليوم- بذلك مُحَالٌ، ولهم في المآلِ- مِنْ ذلك- وبالُ.
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله {ويوم نحشرهم} عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله: {والذين كسبوا السيئات} فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله: {والذين كسبوا السيئات} الكفار، وحاصل الكلام: أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤون منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار {مكانكم} كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون}.
والقول الثالث: إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله: {ويوم} أي و فرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم {نحشرهم} أي الفريقين: الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم {جميعاً} ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 4] وإلى قوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18] والحشر: الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛ وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله: {ثم نقول للذين أشركوا} أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛ وقوله: {مكانكم}... أي نقول لهم: قفوا وقوف الذل {أنتم وشركآؤكم} حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهارا لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك.
ولما كان التقدير: فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله: {فزيلنا} أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان {بينهم} في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار: ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك {وقال شركاؤهم} لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق {ما كنتم} أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم {إيانا تعبدون} أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة إلى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخَهم وتهديدَهم على رؤوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل، وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا لون آخر من ألوان البيان لعقيدة البعث والجزاء، وقد بينا حكمة هذا التكرار المختلف الأساليب والألوان وأمثاله في الكلام على أسلوب القرآن وإعجازه.
{ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي واذكر أيها الرسول لفريقي الناس الذين ضربنا لهم ما سبق من الأمثال، وبينا ما يعملون من الأعمال، يوم نحشرهم جميعا في موقف الحساب لا يتخلف منهم أحد، أو الظرف متعلق بقوله تعلى في الآية التالية {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ}، وفي بعض الآيات {ويوم يحشرهم وما يعبدون} [الفرقان: 17].
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي ثم نقول للمشركين منهم بعد وقوف طويل لا يخاطب فيه أحد بشيء كما تدل عليه بعض الآيات: الزموا مكانكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم.
{أَنتُمْ وشُرَكَآؤُكُمْ} أي الزموه أنتم وشركاؤكم، أي الذين جعلتموهم شركاء لله لنفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم لهم، وما يقول كل منكم فيها.
{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي فرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله، وميزنا بعضهم من بعض كما يميز بين الخصوم عند الحساب، والتنزيل من زاله يزاله كناله يناله بمعنى نحاه، (وهو يائي)، وزايلته فارقته، وتزيلوا تميزوا بافتراق بعضهم من بعض، ومنه قوله في أهل مكة واختلاط مؤمنيهم بكفارهم قبل الفتح: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} [الفتح: 25]. أو المراد من التنزيل والتفريق تقطيع ما كان بنيهم في الدنيا من الصلات، وما للمشركين في الشركاء من الآمال، وكل من المعنيين صحيح، والعبادة الشركية أنواع، والمعبودات والمعبودون أنواع، يصح في بعضهم ما لا يصح في الآخر، ولذلك تكرر معنى حشر الفريقين وحسابهم في سور أخرى، بعضها في عبادة الملائكة وعبادة الجن، وبعضها في عبادة الشر، وما اتخذ لهم من التماثيل والصور، ومثلها القبور المعظمة، وسنشير إلى شواهده.
{وقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي ما كنتم تخصوننا بالعبادة وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم، وتتخذون أسماءنا وتماثيلنا هياكل ومواسم لمنافعكم ومصالحكم، وليس هذا شأن العبودية الصادقة للمعبود الحق الذي يطاع ويعبد؛ لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق، وبيده تدبير الأمر، ومصادر النفع والضر، والمراد أنهم يتبرؤون منهم كما صرح به في آيات أخرى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإِلهي، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.
فتقول أوّلا: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم).
واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم، في حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله، لا شريكة أنفسهم.
إِنّ هذا التعبير في الحقيقة إِشارة لطيفة إِلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام...
في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء: (وقال شركاؤهم ما كنتم إِيانا تعبدون) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم، لا أنّكم كنتم تعبدوننا، ولو سلمّنا ذلك فإِنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.