ثم بين - سبحانه - حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك ، فقال - تعالى - : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . . } .
قال الجمل : قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ . . } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وابو بكر عن عاصم " مرجأون " بهمزة مضمونة بعدها واو ساكنة . وقرأ الباقون " مرجون " دون تلك الهمزة . . وهما لغتان ، يقال أرجأته وأرجيته . . "
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } .
والمعنى : ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك - يا محمد - قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله بحكمه العادل ، فهو - سبحانه - " إما يعذبهم " بأن يميتهم بلا توبة { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أى : يقبل توبتهم .
وهذا الترديد الذي يدل عليه لفظ " إما " ، إنما هو بالنسبة للناس ، وإلا فالله - تعالى - عليم بما هو فاعله بهم .
والحكمة من إيهام أمرهم ، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم ؛ لأن التوبة عندما تجئ بعد ندم شديد ، وتأديب نفسى . . تكون مرجوة القبول منه - سبحانه - .
وقوله { والله عَلِيمٌ } أى : والله - تعالى - عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في أمورهم ، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام .
قال الآلوسى : والمراد بهؤلاء " المرجون لأمر الله . . . " " كما جاء في الصحيحين : هلال بن أمية ، وكعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك - فقعدوا في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة - ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان ما كان من أمر المتخلفين - قالوا : لا عذر لنا إلا الخطئية ، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باجتنابهم . . إلى أن نزل قوله - تعالى - بعد ذلك : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } . . { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } فأمر - صلى الله عليه وسلم - بخالطتهم ، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ، إذ كانت مدة غيبته - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة خميسن ليلة ، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة مع تعب إخوانهم في السفر ، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة " .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك .
أما الطائفة الأولى فهى التي مردت على النفاق ، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق . . } وأما الطائفة الثانية فهى التي سارعت إلى الاعتذار والاتراف بالذنب ، فقبل الله توبتهم ، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } .
وأما الطائفة الثالثة فهى التي لم تجد عذرا تعتذر به ، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة ، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . . } .
قال ابن عباس ومجاهدُ وعِكْرِمة ، والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا ، أي : عن التوبة ، وهم : مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلا وميلا إلى الدَّعَة والحفظ وطيب الثمار والظلال ، لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة رَبَطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل أبو لُبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية ، وهي قوله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } الآية [ التوبة : 117 ] ، { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ] } {[13832]} الآية [ التوبة : 118 ] ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك .
وقوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي : هم تحت عفو الله ، إن شاء فعل بهم هذا ، وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه ، وهو { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم في أفعاله وأقواله ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المتخلفين عنكم شخصتم لعدوّكم أيها المؤمنون آخرون . ورفع قوله آخرون عطفا على قوله : وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا . وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ يعني مرجئون لأمر الله وقضائه ، يقال منه أرجأته أرجئه إرجاءً وهو مُرْجَأٌ بالهمز وترك الهمز ، وهما لغتان معناهما واحد ، وقد قرأت القرّاء بهما جميعا . وقيل : عنى بهؤلاء الاَخرين نفر ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فندموا على ما فعلوا ولم يتعذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري ، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحت توبتهم ، فتاب عليهم وعفا عنهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : وكان ثلاثة منهم يعني من المتخلفين عن غزوة تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري أرجئوا سبتة لا يدرون أيعذّبون أو يتاب عليهم . فأنزل الله : لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ . . . إلى قوله : إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية يعني قوله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه فتصدّق بها عنهم ، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة ، ولم يوثقوا ، ولم يذكروا بشيء ، ولم ينزل عذرهم ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت . وهم الذين قال الله : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وَإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلَيمٌ حَكِيمٌ فجعل الناس يقولون : هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر وجعل آخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم فصاروا مرجئين لأمر الله ، حتى نزلت : لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ والأنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوه فِي ساعَة العُسْرَةِ الذين خرجوا معه إلى الشام مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تابَ عَلَيْهِمُ إنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . ثم قال : وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا يعني المرجئين لأمر الله نزلت عليهم التوبة فعُمّوا بها ، فقال : حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ . . . إلى قوله : إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال : هم الثلاثة الذين خلفوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال : هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج .
قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة يريد غير أبي لبابة وأصحابه ولم ينزل الله عذرهم ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : هلكوا حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه ، وتقول فرقة أخرى : عسى الله أن يعفو عنهم وكانوا مرجئين لأمر الله . ثم أنزل الله رحمته ومغفرته ، فقال : لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ . . . الآية ، وأنزل الله : وَعلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال : كنا نُحَدّثُ أنهم الثلاثة الذين خلفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، رهط من الأنصار .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ قال : هم الثلاثة الذين خلفوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهم الثلاثة الذين خلوا ، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى أتتهم توبتهم من الله .
وأما قوله : إمّا يُعَذّبُهُمْ فإنه يعني : إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه إياهم فيعذّبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الاَخرة . وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ يقول : وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم ، فيغفر لهم . واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول : والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب ، حكيم في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه ، لا يدخل حكمه خلل .
هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين . والمراد بهؤلاء من بقي من المخلَّفين لم يتب الله عليه ، وكان أمرهم موقوفاً إلى أن يقضي الله بما يشاء . وهؤلاء نفر ثلاثة ، هم : كعب بن مالك ، وهِلال بن أمية ، ومُرارة بن الربيع ، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك . ولم يكن تخلفهم نفاقاً ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق . وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك . فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصَدَقوه ، فلم يكلمهم ، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم ، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة ، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله . وفي تلك المدة نزلت هذه الآية { ثم تاب الله عليهم } [ المائدة : 71 ] . وأنزل فيهم قوله : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } إلى قوله { وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 117 119 ] .
وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في « صحيح البخاري » . على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها . وقد جوز المفسرون عود ضمير { ألم يعلموا } [ التوبة : 104 ] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما .
وقوله : { هو يقبل التوبة } [ التوبة : 104 ] ( هو ) ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر . و { عن عباده } [ التوبة : 104 ] متعلقة ب { يقبل } لتضمنه معنى يتجاوز ، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها .
فكأنه قيل : يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده . وكان حق تعدية فعل ( يقبل ) أن يكون بحرف ( من ) . ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال : لعل ( عن ) أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت . ولم يبين وجه ذلك ، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز .
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب ، فالمراد بِ { عباده } جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان .
والآية دليل على قبول التوبة قطعاً إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية . وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل . ومختلفٌ فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر ؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين . مقبولة قطعاً . ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق . وادعى الإمام في « المعالم » الإجماعَ عليه وهي أولى بالقبول . وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري : إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة ، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه . وكأنَّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحاً .
وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفيةٍ أركانها وشروطها . وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } الآية في سورة النساء ( 17 ) .
والأخذ في قوله : { ويأخذ الصدقات } [ التوبة : 104 ] مستعمل في معنى القبول ، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذاً حقيقياً ، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف { مرجَوْن } بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجَاه بالألف ، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره ، فيقال في مضارعه المخفف : أرجيته بالياء ، كقوله : { تُرجي من تشاء منهن } [ الأحزاب : 51 ] بالياء ، فأصل مُرجَون مُرْجَيُون . وقرأ البقية { مُرجَئُون } بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرىء { ترْجيءُ من تشاء } [ الأحزاب : 51 ] . واللام في قوله : { لأمر الله } للتعليل ، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم . وفيه حذف مضاف ، تقديره : لأجل انتظار أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء .
وجملة : { إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } بيان لجملة : { وآخرون مُرجَون } باعتبار متعلق خبرها وهو { لأمر الله } ، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم ، وإما توبته عليهم . ويفهم من قوله { يتوب عليهم } أنهم تابوا .
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذٍ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير . وذنبهم هو التخلف عن النفير العام ، كما تقدم عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] الآية . وقبول التوبة عما مضى فضل من الله .
و { إما } حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء . ومعناها قريب من معنى ( أو ) التي للتخيير ، إلا أن ( إما ) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو ، و ( أو ) لا تدخل إلا على ثاني الاسمين . وكان التساوي بين الأمرين مع ( إما ) أظهر منه مع ( أو ) لأن ( أو ) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } في سورة الأعراف ( 115 ) .
ويعذبهم ويتوب عليهم } فعلان في معنى المصدر حذفت ( أن ) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم : « تسمعُ بالمعيدي خير من أن تراه » لأن موقع ما بعد ( إما ) للاسم نحو { إما العذاب وإما الساعة } [ مريم : 75 ] و { وإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً } [ الكهف : 86 ] .
وجملة : { والله عليم حكيم } تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس ، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين ، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وآخرون مرجون لأمر الله}، يعني التوبة عن أمر الله، يعني موقوفون للتوبة عن أمر الله: مرارة بن الربيع من بني زيد، وهلال بن أمية من بني واقب، وكعب بن مالك الشاعر من بني سلمة، كلهم من الأنصار، لم يفعلوا كفعل أبي لبابة، لم يذكروا بالتوبة ولا بالعقوبة، فذلك قوله: {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} فيتجاوز عنهم، {والله عليم حكيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم حين شخصتم لعدوّكم أيها المؤمنون آخرون. ورفع قوله آخرون عطفا على قوله:"وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وآخَرَ سَيّئا". "وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ "يعني مرجؤون لأمر الله وقضائه... وقيل: عُنِي بهؤلاء الآخرين نفر ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فندموا على ما فعلوا ولم يتعذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحت توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم...
عن ابن عباس، قال: وكان ثلاثة منهم يعني من المتخلفين عن غزوة تبوك لم يوثقوا أنفسهم بالسواري أرجئوا سبتة لا يدرون أيعذّبون أو يتاب عليهم. فأنزل الله: "لَقَدْ تَابَ اللّهُ على النّبِيّ وَالمْهاجِرِينَ "إلى قوله: "إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ"...
عن مجاهد: "وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ" قال: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك من الأوس والخزرج...
عن ابن إسحاق: "وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللّهِ إمّا يُعَذّبُهُمْ وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ" وهم الثلاثة الذين خلفوا، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى أتتهم توبتهم من الله.
وأما قوله: "إمّا يُعَذّبُهُمْ" فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه إياهم فيعذّبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة، "وإمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ" يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم، فيغفر لهم. "واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب، "حكيم" في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه، لا يدخل حكمه خلل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وآخرون مرجون لأمر الله" والإرجاء: تأخير الأمر إلى وقت..
وقوله "إما يعذبهم وإما يتوب عليهم" فلفظة (إما) لوقوع أحد الشيئين والله أعلم بما يصير إليه أمرهم إلا أن هذا للعباد، خوطبوا بما يعلمون. والمعنى وليكن أمرهم عندكم على هذا أي على الخوف والرجاء... فإن عفا فبفضله وإن عاقب فبعدله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية عطف على قوله تعالى: {وآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً}، وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك. فقد علم مما تقدم أن المتخلفين منهم المنافقون وهم أكثرهم- وقد تقدم بيان أقسامهم ومن اعتذر ومن لم يعتذر منهم- ومنهم المؤمنون، وهم قسمان: أحدهما: الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم. وثانيهما: الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا عذر لهم، وأرجأوا توبتهم، فأرجأ الله الحكم القطعي في أمرهم للحكمة التي يأتي بيانها قريبا. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم: هم الثلاثة الذين خلفوا، أي عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا، فكانت طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورين، فنزلت توبة أولئك قبل توبة هؤلاء، وأرجئ هؤلاء عن التوبة حتى نزلت آيتا التوبة الآتيتين (117 و 118).
{وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ} أي وثم أناس آخرون من المتخلفين مؤخرون لحكم الله في أمرهم، أو لأمره لرسوله بما يعاملهم به...
وروي أن هذا الإرجاء كان 50 يوما.
{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي أبهم الأمر عليهم وعلى الناس، لا يدرون ما ينزل فيهم، هل تنصح توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أم يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين؟ فالترديد بين الأمرين هو بالنسبة إلى الناس لا إلى الله عز وجل، وحكمة إبهام أمر هؤلاء عليهم إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم، وحكمة إبهامه على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم، تربية للفريقين على ما يجب في أمثالهم من الذين يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق والعدل، ودفع عدوان الكفار عن المؤمنين، حتى ما كان من أمرهم ما بينه في الآية 118.
{واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بحال عباده، ويربيهم ويزكيهم ويصلح حال أفرادهم ومجموعهم، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح ما عملوا بها. ومن آثار علمه وحكمته إرجاء النص على توبتهم في كتابه، ومن هذه الحكمة تكرار تأثير تلاوة المؤمنين للآيات في ذلك في الأوقات المتفرقة، فإنها من أعظم آيات القرآن ترهيبا وتخويفا، وعظة وتهذيبا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ورغما عن كون هاتين الآيتين وردتا في الأصل على هذا السبب الخاص وفي أناس معينين، فإن معناهما يعم كافة المذنبين من غير المنافقين...