اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (106)

قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ } الآية .

قرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو{[18119]} ، وابنُ عامرٍ ، وأبُو بكرٍ عن عاصم " مُرْجؤونَ " بهمزة مضمومة بعدها " واو " ساكنة . والباقون " مُرجَوْنَ " دون همز ، وهذا كقراءتهم{[18120]} في الأحزاب " ترجىء " [ الأحزاب : 51 ] بالهمز ، والباقون بدونه .

وهما لغتان ، يقال : أرْجَأتُه ، وأرْجَيْتُه ، ك : أعْطَيْته . ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة ؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً ، ك : قرأت ، وقرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت . والإرجاء : التأخير . وسميت المرجئةُ بهذا الاسم ؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله . وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان .

قوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ ، و " مُرْجَونَ " يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين ، وإمَّا متوباً عليهم ، و " إمَّا " هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب ، فناسٌ يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم . وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين .

فصل

اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام :

أحدها : المنافقون الذين مردُوا على النفاق .

والثاني : التَّائبون وهم المُرادُون بقوله : { وَآخَرُونَ اعترفوا } وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم .

والثالث : الذين بقوا موقوفين ، وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني ، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها . قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا : كعبُ بنُ مالكٍ ، ومرارةُ بن الربيع ، وهلالُ بنُ أميَّة ، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة ، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة ، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم ، حتَّى شفَّهم القلقُ ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر ؛ فجعل أناس يقولون : هلكُوا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله ، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم ، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة{[18121]} . { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } " عَليمٌ " بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين " حَكِيمٌ " بما يحكم فيها .

فإن قيل : إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ ، وتخلفهم عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ ، بل قال : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ .

فالجوابُ : لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وعلى هذا ، فلا تكونُ توبتهم صحيحة ، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم ؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية ، فحينئذٍ صحَّت توبتهم .

فصل

احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين ، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة ، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة ؛ فهو قسم ثالث . فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره ، دلَّ على بطلانه .

وأجيب : بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد ؛ فذلك مشكوكٌ فيه ، قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ ، بل في حقِّ من يشاء ؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق ، وأيضاً فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم ، ألا ترى قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] وهم المؤمنون { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 40-42 ] فذكر المؤمنين والكافرين ، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث ، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه ؛ فكذا ههنا .


[18119]:ينظر: حجة القراءات (323)، إعراب القراءات 1/255، إتحاف 2/97-98، الكشاف 2/308، المحرر الوجيز 3/80، البحر المحيط 5/101، الدر المصون 3/501.
[18120]:ستأتي في سورة الأحزاب آية (51).
[18121]:تقدم.