ثم حكى - سبحانه - بعض الأسباب الأخرى لإلحاح زكريا فى الدعاء فقال : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ . . } .
والموالى : جمع مولى ، والمراد بهم هنا : عصبته وأبناء عمومته الذين يلون أمره بعد موته ، وكان لا يثق فيهم لسوء سلوكهم .
والعاقر : العقيم الذى لا يلد ، ويطلق على الرجل والمرأة ، يقال : أمراة عاقر ، ورجل عاقر .
أى : وإنى - يا إلهى - قد خفت ما يفعله أقاربى { مِن وَرَآئِي } أى : من بعد موتى ، من تضييع لأمور الدين ، ومن عدم القيام بحقه { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } لا تلد قط فى شبابها ولا فى غير شبابها ، { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } أى : من عندك { وَلِيّاً } أى : ولدا من صلبى ، هذا الولد { يَرِثُنِي } فى العلم والنبوة { وَيَرِثُ } أيضاً { مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ابن إسحاق بن إبراهيم العلم والنبوة والصفات الحميدة { واجعله } يا رب { رَضِيّاً } أى : مرضيا عندك فى أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته .
ففى هاتين الآيتين نرى زكريا يجتهد فى الدعاء بأن يرزقه الله الولد ، لا من أجل شهوة دنيوية ، وإنما من أجل مصلحة الدين والخوف من تضييعه وتبديله والحرص على من ريثه فى علمه ونبوته ، ويكون مرضياً عنده - عز وجل - .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وقوله { مِن وَرَآئِي } المراد به من بعد موتى ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى : خفت فعل الموالى من ورائي أو جور الموالى . وهم عصبة الرجل . . . وكانوا على سائر الأقوال شرار بنى إسرائيل ، فخاف أن لا يحسنوا خلافته فى أمته " .
وفى قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } اعتراف عميق بقدرة الله - تعالى - لأن مثل هذا العطاء لا يرجى إلا منه - عز وجل - ، بعد أن تقدمت بزكريا السن ، وبعد أن عهد من زوجه العقم وعدم الولادة .
وقد أشار - سبحانه - فى آية أخرى إلى أنه أزال عنها العقم وأصلحها للولادة فقال : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ . . . } أى : وجعلناها صالحة للولادة بعد أن كانت عقيماً من حين شبابها إلى شيبها . . .
وقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } : قرأ الأكثرون بنصب " الياء " من { الْمَوَالِيَ } على أنه مفعول ، وعن الكسائي أنه سكن الياء ، كما قال الشاعر :
كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ *** أيدي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ{[18665]}
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها *** أو القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي :
تَغَاير الشَّعرُ فيه{[18666]} إذ سَهرت لَهُ *** حَتَّى ظَنَنْتُ قوافيه ستَقتتلُ{[18667]}
وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : أراد بالموالي العصبة . وقال أبو صالح : الكلالة .
وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه كان يقرؤها : " وإني خَفَّت الموالي من ورائي " بتشديد الفاء بمعنى : قلت عصباتي{[18668]} من بعدي .
وعلى القراءة الأولى ، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا [ من ]{[18669]} بعده في الناس تصرفًا سيئًا ، فسأل الله ولدا ، يكون نبيًّا من بعده ، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه . فأجيب في ذلك ، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلي ما هذا حده{[18670]} أن يأنف{[18671]} من وراثة عصباته{[18672]} له ، ويسأل أن يكون له ولد ، فيحوز{[18673]} ميراثه دونه دونهم . هذا وجه .
الثاني : أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ، بل كان نجارا يأكل من كسب{[18674]} يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء ، عليهم السلام ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا .
الثالث : أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نُورَث ، ما تركنا فهو صدقة " {[18675]} وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح : " نحن معشر الأنبياء لا نورث " {[18676]} وعلى{[18677]} هذا فتعين حمل قوله : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً } .
يقول : وإني خفت بني عمي وعصبتي من ورائي . يقول : من بعدي أن يرثوني ، وقيل : عنى بقوله مِنْ وَرَائي من قدّامي ومن بين يديّ وقد بيّنت جواز ذلك فيما مضى قبل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي يعني بالموالي : الكَلالة الأولياء أن يرثوه ، فوهب الله له يحيى .
حدثنا يحيى بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي قال : العصبة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي قال : خاف مواليَ الكلالة .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح بنحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي قال : يعني الكلالة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي قال : العَصَبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي قال : العصبة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي والموالي : هنّ العصبة ، والموالي : جمع مولى ، والمولى والوليّ في كلام العرب واحد .
وقرأت قراء الأمصار : وإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ بمعنى : الخوف الذي هو خلاف الأمن . وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأه : «وإنّي خَفّتِ المَوَاليَ » بتشديد الفاء وفتح الخاء من الخفة ، كأنه وجه تأويل الكلام : وإني ذهبت عصبتي ومن يرثني من بني أعمامي . وإذا قرىء ذلك كذلك كانت الياء من الموالي مسكنة غير متحركة ، لأنها تكون في موضع رفع بخفّتْ .
وقوله : وكانَتِ امْرأتي عاقِرا يقول : وكانت زوجتي لا تلد ، يقال منه : رجل عاقر ، وامرأة عاقر بلفظ واحد ، كما قال الشاعر :
لَبِئْسَ الفَتى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عاقِرا *** جَبانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مَحْضَرِ
وقوله : فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يقول : فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا ) .
جملة { وإني خفت الموالي من ورائي } عطف على جملة { واشتعل الرأس شيباً ، } أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي . وما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي صالح عن النبيء صلى الله عليه وسلم مرسلاً أنه قال : " يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله " فلعلّه خشي سوء معرفتهم بما يخلّفه من الآثار الدينية والعلمية . وتلك أعلاق يعزّ على المؤمن تلاشيها ، ولذلك قال : { يرثني ويرث من آل يعقوب } فإن نُفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع .