- ثم أكد - سبحانه - وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإِتمام فقال : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } .
والمراد بالهدى : القرآن الكريم المشتمل على الارشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار الصادقة ، والتشريعات الحكيمة .
والمراد بدين الحقك دين الإِسلام الذي هو خاتم الأديان .
وقوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } من الإِظهار بمعنى الإِعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ، والسيادة والسلطان .
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإِرسال والغاية منه .
والضمير في { لِيُظْهِرَهُ } يعود على الدين الحق أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : هو الله - سبحانه - الذي أرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم ، بالقرآن الهادى للتى هي أقوم ، وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإِرسال لإِظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحدة والغلبة ، ولاظهار رسوله ، صلى الله عليه وسلم ، على أهل الأديان كلها ، بما أوحى إليه - سبحانه - من هدايات ، وعبادات ، وتشريعات ، وآداب .
. . . في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة .
وختم - سبحانه - هذه الآية بقوله : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } وختم التي قبلها بقوله : { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } للاشعار بأن هؤلاء الذين قالوا : { عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا ، بين رذيلتى الكفر والشكر ، وأنه ، سبحانه ، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير بعض الأحاديث الى تؤيد ذلك ، منها : ما ثبت في الصحيح عن رسول الله . صلى الله عليه وسلم . أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض من مشارقها ومغاربها ، وسبيلغ ملك أمتى ما زوى لى منها " .
وروى الإِمام أحمد عن مسعود بن قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحى من محارب الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " .
وروى أيضا عن تميم الدارى قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا بر إلا أدخله هذا الدين ، يعز عزيزا ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإِسلام ، وذلا يذل الله به الكفر " وكان تميم الدارى يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتى ، لقد أصاب من أسلم مهم الشرف والخير والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية .
وأخرج أيضاً " عن عدى بن حاتم قال : دخلت على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عدى أسلم تسلم " ، فقلت يا رسول الله : إنى من أهل دين . قال : " أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت أعلم بدينى منى ؟ قال نعم ، ألست من الركوسية ، وأنت تأكل من مرباع قومك
" . قلت : بلى . قال : " فإن هذا لا يحل لك في دينك " .
ثم قال : - صلى الله عليه وسلم - : " أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإِسلام تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، ومن رمتهم العرب ، أعرف الحيرة " ؟
قال : " فوالذى نفسى بيده ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الضعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " .
قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " نعم . كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد " .
قال عدى بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد . ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذى نفسى بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قالها .
وإلى هنا نرى أن هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم { عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } ، وأرشدتهم إلى الطريق الحض الواضح المستقيم ليسيروا عليه ، ووبختهم على تشبههم في هذه الأقوال البالطة بمن سبقهم من الضالين ، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون تعقل أو تدبر ، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله هم على الأديان كلها .
ثم قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } فالهدى : هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة ، والإيمان الصحيح ، والعلم النافع - ودين الحق : هي الأعمال [ الصالحة ]{[13396]} الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة .
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها " {[13397]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن أبي يعقوب : سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قَبِيصة - أو : قبيصة بن مسعود - يقول : صلى هذا الحي من " مُحَارب " الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " {[13398]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا سليم بن عامر ، عن تميم الداري ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين ، بعِزِّ عزيز ، أو بِذُلِّ ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر " ، فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية{[13399]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني ابن جابر ، سمعت سليم بن عامر قال : سمعت المقداد بن الأسود يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يبقى على وجه الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر ، إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزِّ عزيز ، أو بذلِّ ذليل ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها " {[13400]}
وفي المسند أيضا : حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي حذيفة ، عن عدي بن حاتم سمعه{[13401]} يقول : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عدي ، أسلم تسلم " . فقلت : إني من أهل دين . قال : " أنا أعلم بدينك منك " . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : " نعم ، ألست من الرَّكُوسِيَّة ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ " . قلت : بلى . قال : " فإن هذا لا يحل لك في دينك " . قال : فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها ، قال : " أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له ، وقد رَمَتْهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ " قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : " فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن{[13402]} كنوز كسرى بن هرمز " . قلت : كسرى بن هرمز ؟ . قال : " نعم ، كسرى بن هرمز ، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد " . قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها{[13403]} .
وقال مسلم : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرّقَاشِيّ ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن الأسود بن العلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَد اللاتُ والعُزّى " . فقلت : يا رسول الله ، إن كنت لأظن حين أنزل الله ، عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } إلى قوله : { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أن ذلك تام ، قال : " إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ، عز وجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة [ فيتوفى كلّ من كان في قلبه مثقال حَبَّة خردل من إيمان ]{[13404]} فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم " {[13405]}
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه ، الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ، يعني : ببيان فرائض الله على خلقه ، وجميع اللازم لهم ، وبدين الحقّ وهو الإسلام ، لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ يقول : ليعلى الإسلام على الملل كلها ، ولو كَرِهَ المُشْرِكُونَ بالله ظهوره عليها .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله : لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ فقال بعضهم : ذلك عند خروج عيسى حين تصير الملل كلها واحدة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : حدثنا شقيق ، قال : ثني ثابت الحداد أبو المقدام ، عن شيخ ، عن أبي هريرة في قوله : لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال : حين خروج عيسىَ ابن مريم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن فضيل بن مرزوق ، قال : ثني من سمع أبا جعفر : لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال : إذا خرج عيسى عليه السلام اتبعه أهل كل دين .
وقال آخرون : معنى ذلك : ليعلمه شرائع الدين كلها فيطلعه عليها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ قال : ليظهر الله نبيه على أمر الدين كله ، فيعطيه إياه كله ، ولا يخفى عليه منه شيء . وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك .
وقوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } الآية ، { رسوله } يراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله { بالهدى } يعم القرآن وجميع الشرع ، وقوله { ودين الحق } إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية ، وقوله { ليظهره } قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله{[5615]} ما معناه : إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره .
قال القاضي أبو محمد : فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر ، وقالت فرقة { ليظهره على الدين } أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه .
قال القاضي أبو محمد : فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة : الضمير عائد على الرسول ، ومعنى { ليظهره } ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل وإن كان صحيحاً جائزاً فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين ، وخص { المشركون } هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم فذكره العظم{[5616]} والأول ممن كره ذلك وصد فيه ، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقيه ، فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى إنقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مراراً كثيرة .
بيان لجملة { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [ التوبة : 32 ] بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين ، فلا يريد إزالته ، ولا يجعل تقديره باطلاً وعبثاً . وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين .
وفي قوله : { هو الذي أرسل رسوله } صيغة قصر ، أي هو لا غيره أرسَلَ رسوله بهذا النور ، فكيف يَترُك معانديه يطفئونه .
واجتلاب اسم الموصول : للإيماء إلى أنّ مضمون الصلة علّة للجملة التي بُنيت عليها هذه الجملةُ وهي جملة : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [ التوبة : 32 ] .
وعبّر عن الإسلام { بالهدى ودين الحق } تنويهاً بفضله ، وتعريضاً بأنّ ما هم عليه ليس بهدى ولا حقّ .
وفعل الإظهار إذا عُدّي ب { على } كان مضمَّنا معنى النصر ، أو التفضيل ، أي لينصره على الأديان كلّها ، أي ليكون أشرف الأديان وأغلَبها ، ومنه المظاهرة أي المناصرة ، وقد تقدّم ذكرها آنفاً عند قوله : { ولم يظاهروا عليكم أحداً } [ التوبة : 4 ] .
فالإسلام كان أشرفَ الأديان : لأنّ معجزة صدقه القرآن ، وهو معجزة تُدرك بالعقل ، ويستوي في إدراك إعجازِها جميع العصور ، ولِخُلّو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل ، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى ، وخلي عن وضع التكاليف الشاقّة ، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم ، وقد فصّلت ذلك في الكتاب الذي سمّيْته « أصول النظام الاجتماعي في الإسلام » .
وظهور الإسلام على الدين كلّه حصل في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار ، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك ، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلّقوا بها ، وما صلحت بعضُ أمورهم إلاّ فيما حاكَوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم ، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان .
و { لو } في { ولو كره المشركون } وصلية مثل التي في نظيرتها . وذكر المشركون هنا لأنّ ظهور دين الإسلام أشدّ حسرة عليهم من كلّ أمّة ، لأنّهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعَوا الأمم للتألّب عليه واستنصروا بهم فلَم يغنوا عنهم شيئاً ، ولأنّ أتمّ مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها ، وزالت منها جميع الأديَان الأخرى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يَبقى دينان في جزيرة العرب " فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محلّ المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كلّه كما يظهر بالتأمّل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو الذي أرسل رسوله} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {بالهدى ودين الحق}، يعني دين الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام باطل، {ليظهره على الدين كله} يقول: ليعلو بدين الإسلام على كل دين، {ولو كره المشركون}...
قال الشافعي: فقد أظهر الله عز وجل دينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان، بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين الأميين. فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعض الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه صلى الله عليه وسلم وهذا ظهور الدين كله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه، الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى، يعني: ببيان فرائض الله على خلقه، وجميع اللازم لهم، وبدين الحقّ وهو الإسلام، "لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ "يقول: ليعلي الإسلام على الملل كلها، "ولو كَرِهَ المُشْرِكُونَ" بالله ظهوره عليها.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: "لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّهِ"؛ فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى حين تصير الملل كلها واحدة...
وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائع الدين كلها فيطلعه عليها...
فيه بشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بنصرهم وإظهار دينهم على سائر الأديان، وهو إعلاؤه بالحجة والغلبة وقهر أمته لسائر الأمم؛ وقد وجد مخبره على ما أخبر به بظهور أمته وعلوّها على سائر الأمم المخالفة لدين الإسلام. وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن القرآن كلام الله ومن عنده؛ وذلك لأن مثله لا يتفق للمتخرِّصين والكذّابين مع كثرة ما في القرآن من الأخبار عن الغيوب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فهو إذاً كلامه وخبره، ولا ينزل الله كلامه إلا على رسوله.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقال الكلبي: لايبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق...}، {رسوله} يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله {بالهدى} يعم القرآن وجميع الشرع، وقوله {ودين الحق} إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية، وقوله {ليظهره} قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله ما معناه: إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره.
...فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر، وقالت فرقة {ليظهره على الدين} أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه.
قال القاضي أبو محمد: فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة: الضمير عائد على الرسول، ومعنى {ليظهره} ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام.
...وهذا التأويل وإن كان صحيحاً جائزاً فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين، وخص {المشركون} هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم فذكره العظم والأول ممن كره ذلك وصد فيه، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقيه، فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مراراً كثيرة.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره، بين كيفية ذلك الإتمام فقال: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}.
واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور:
أولها: كثرة الدلائل والمعجزات، وهو المراد من قوله: {أرسل رسوله بالهدى}.
وثانيها: كون دينه مشتملا على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة، وهو المراد من قوله: {ودين الحق}.
وثالثها: صيرورة دينه مستعليا على سائر الأديان غالبا عليها غالبا لأضدادها قاهرا لمنكريها، وهو المراد من قوله: {ليظهره على الدين كله}.
واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة، وقد يكون بالكثرة والوفور، وقد يكون بالغلبة والاستيلاء، ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك، ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل، وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم، فالواجب حمله على الظهور بالغلبة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فالهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هي الأعمال [الصالحة] الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" وقال مسلم: حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرّقَاشِيّ، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَد اللاتُ والعُزّى". فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله، عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تام، قال:"إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، عز وجل، ثم يبعث الله ريحا طيبة [فيتوفى كلّ من كان في قلبه مثقال حَبَّة خردل من إيمان] فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم "
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هو} أي وحده {الذي أرسل رسوله} أي محمداً صلى الله عليه وسلم {بالهدى} أي البيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية {ودين الحق} أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله: {ليظهره} أي الرسول صلى الله عليه وسلم والدين -أدام الله ظهوره {على الدين كله} وساق ذلك كله مساق الجواب لمن كأنه قال: كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي؟ فقال: لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره، وهم إنما يعتمدون على مخاليق مثلكم، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما يقاتلون ربهم الذي أنتم في طاعته؟ أم كيف لا تصادمونهم وهو الذي أمركم بقتالهم لينصركم ويظهر آياته؟ ولعل الختم بقوله: {ولو كره المشركون} أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد، أي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} هذا بيان مستأنف للمراد من إتمام نور الله عزَّ وجلَّ، وهو أن الله الذي كفل إتمام هذا النور هو الذي أرسل رسوله الأكمل الذي أخذ العهد على النبيين من قبل (ليؤمنن به ولينصرنه) إن جاء في زمن أحد منهم، أرسله بالهدى الأتم الأكمل الأعم الأشمل، ودين الحق أي الثابت المتحقق الذي لا ينسخه دين آخر ولا يبطله شيء آخر {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] وهو في مقابلة قوله في أهل الكتاب الذي ذكر في أول هذا السياق {ولا يدينون دين الحق} [التوبة: 29]؛ لأنهم أضاعوا حظاً عظيماً من كتب أنبيائهم ومواعظهم، وحرفوا الباقي منها فلم يقيموه على وجهه، بل استبدلوا به تقاليد وضعها لهم الرؤساء بأهوائهم، كما تقدم شرحه في هذا السياق. فعلم بهذا أن المراد بالحق الأمر الثابت المتحقق، وأن إضافة الدين إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، وفيه وجه آخر صحيح يجامعه ولا يباينه وهو أن معناه دين الله المحض الذي لا شائبة فيه كالشوائب التي عرضت للأديان السابقة ولما بقي من كتبها. وكلمة الحق من أسماء الله تعالى كما قال: {فذلكم الله ربكم الحق} [يونس: 32].
ومن المعلوم عند جميع علماء التاريخ العام -ولا سيما تاريخ الأديان- أنه لا يوجد دين منقول عمن جاء به من رسل الله تعالى أو من غيرهم نقلاً صحيحاً متواتراً بالقول والفعل متصل الأسانيد إلا دين الإسلام. وقد ذكرنا في الفصل الذي عقدناه لإثبات ضياع كثير من الإنجيل وتحريف النصارى لكتبهم المقدسة في آخر تفسير (5: 15) من سورة المائدة أن فيلسوفا هنديا درس تواريخ الأديان كلها، وبحث فيها بحث حكيم منصف لا يريد إلا استبانة الحق، وأطال البحث في النصرانية لما للدول المنسوبة إليها من الملك وسعة السلطان، ونظر بعد ذلك كله في الإسلام، فكانت غاية ذلك الدرس أن عرف بالبرهان أن الإسلام هو الدين الحق، فأسلم وألف كتابا باللغة الإنكليزية عنوانه (لماذا أسلمت)، أظهر فيه مزاياه على جميع الأديان وكان من أهمها عنده أنه هو الدين الوحيد الذي له تاريخ ثابت محفوظ... وكان من مثار العجب عنده أن ترضى أوروبا لنفسها ديناً ترفع من تنسبه إليه عن مرتبة البشر فتجعله إلهاً وهي لا تعرف من تاريخه شيئاً يعتد به...
ثم بين غاية إرسال خاتم النبيين والمرسلين بدين الحق أو علته بقوله: {ليظهره على الدين كله} يقال أظهر الشيء: أوضحه وأبانه فجعله ظاهرا لا خفاء فيه، وأظهر فلانا على الشيء أو على الخبر: أطلعه عليه وأخبره به. ومنه قوله تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 27]، وقوله: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه} [التحريم: 3] الخ. وأظهره على الشيء أو على الشخص جعله فوقه مستعلياً عليه. والاستعلاء هنا بالعلم والحجة، أو السيادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها كلها، وهو المختار، وإن كان الوعد يصدق ببعضها، والدين جنس يشمل كل دين.
وفي الضمير المنصوب هنا قولان: أحدهما: أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، والمعنى حينئذ أنه تعالى يظهر هذا الرسول على كل ما يحتاج إليه المرسل هو إليهم من أمور الدين: عقائده وآدابه، وسياسته وأحكامه، لأن ما أرسله به هو الدين الأخير الذي لا يحتاج البشر بعده إلى زيادة في الهداية الدينية. بل يوكلون فيما وراء نصوصه إلى اجتهادهم واختبارهم العلمي والعملي مع الاهتداء بها، حتى لا يضلوا ولا يتفرقوا بتركها. ونحن نعلم من كتب الأديان وتاريخهم أنها ليست كذلك؛ بل لا تعدو كتب كل منها حاجة المخاطبين بها من قوم رسولها، فاليهودية دين شعب نسبي أراد الله تربيتهم بشريعة شديدة التضييق عليهم لتطهيرهم من الوثنية وعبادة البشر، ليقيموا التوحيد في بلاد مباركة استحوذ عليها الشرك، وقد كان ذلك زمناً ما، ثم فسدوا وصار أكثرهم وثنيين ماديين، فبعث الله إليهم المسيح عليه السلام بتعاليم شديدة المبالغة في الزهد ومقاومة المفاسد المادية، وكبح جماح الشهوات الجسدية، فكان له ما كان من التأثير فيهم وفي الروم وغيرهم زمنا ما، ولكن غلا بعضهم في الزهد وعرض لهم فيه الغرور مع الجهل، وعاد الأكثرون إلى الإسراف في الشهوات والعلو في الأرض. وكان هذا بعد ذلك تمهيدا للدين التام الوسط الجامع بين المصالح المادية والمعنوية، والمزايا الروحية والجسدية، ليكون عاماً للبشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...
والوجه الثاني: أن الضمير لدين الحق الذي أرسل به صلى الله عليه وسلم، ومعناه أنه تعالى يعلي هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والعلم والعمران، وكذا السيادة والسلطان (كما قلنا آنفا)، ولم يكن لدين من الأديان مثل هذا التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي إلا للإسلام وحده.
لا ننكر أن جميع أتباع الأنبياء قد صلحت حالهم باهتداء كل منهم بنبيهم مدة اهتدائهم به، ولكن التاريخ لم يرو لنا أنه كان لدين من الأديان كل هذه الفوائد بتأثيره فيهم.
أما ظهور الإسلام بالحجة والبرهان، فلا يختلف فيه عاقلان مستقلان، عرفاه وعرفا غيره من الأديان، وقد ذكرنا في هذا السياق بعض الشواهد عن هذا من كلام علماء الإفرنج المستقلين، وأشرنا إلى غير ما ذكرناه منها مما يمكن لمقتني مجلدات مجلة المنار أن يراجعوه في أكثرها بالاستعانة بالفهرس العام، ولا سيما لفظ الإسلام.
وأما ظهوره عليها بالعلم والعمران، والسيادة والسلطان، فالذي يتراءى للناس بادي الرأي في هذا الزمان أنه معارض بما عليه دول الإفرنج واليابان، وضعف ما بقي من دول الإسلام، وأنه إنما يظهر وجهه في دول العرب الأولى، وكذا دولة الترك في أول عهدها.
ونجيب عن ذلك بأن ما عليه دول الإفرنج واليابان وشعوبهما ليس من تأثير أديانهما في تعاليمها ولا في العمل بها، ولو كان كذلك لظهر عقب وجود الدين فيهم وأخذهم به. وقد نقلنا في هذا السياق عن علماء الإفرنج الأحرار المستقلين أن مدنيتهم الحاضرة، وما بنيت عليه من العلوم والفنون، لم يكن إلا من تأثير الحضارة الإسلامية والاقتباس من كتبها، ومن المعلوم لكل ملم بالتاريخ الحديث أن اليابان اقتبست حضارتها وقوتها من أوروبا في القرن الماضي، وحضارة العرب لا يمكن أن يكون لها سبب إلا هداية دينهم.
وقد قصر جميع المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم في تفسير هذه الآيات؛ لأنهم إنما يأخذون تفاسيرهم من معاني الألفاظ دون تحقيق لمدلولاتها في الخارج، ومن الروايات المأثورة على قلتها وقلة ما يصح منها، وقد صح في بعضها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) 68، وهو حديث طويل رواه مسلم من حديث ثوبان، وفي مسند أحمد عن شاب من محارب مرفوعاً: (أنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها) 69، وهو مطلق غير مقيد بما زوي له صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه من الأرض، ومن علماء الأصول من يوجب حمل المطلق على المقيد، وفي بعضها تعيين مصر، وأوصى بالقبط خيراً والشام وملك كسرى وقيصر وكل هذا قديم. فإن كان شيء مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سيفتح للمسلمين ولما يفتح فلا بد أن يفتح.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ياعدي أسلم تسلم). قلت: إني من أهل دين، قال: (أنا أعلم بدينك منك). فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: (نعم. ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك). قال: فلم يعدُ أن قالها فتواضعت لها. قال: (أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام: تقول إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب. (أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها، ولكن سمعت بها. قال: (فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز). قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: (نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد). قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد. ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها. اه من تفسير العماد ابن كثير.
ومن العلماء من يقول إن بعض هذه البشارات لا يتم إلا في آخر الزمان عند ظهور المهدي، وما يتلوه من نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء، وإقامته لدين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإظهاره بالحكم والعمل به، خلافا لما يتوقعه اليهود والنصارى على اختلافهما في صفته. وقد كان شيوع هذا بين المسلمين من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه وإقامة حجته، وحماية دعوته، وتنفيذ شريعته، وتعزيز سلطته، اتكالا على أمور غيبية مستقبلة، لا تسقط عنهم فريضة حاضرة، وقد تقدم في الكلام على أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف أن أحاديث المهدي لا يصح منها شيء يحتج به، وأنها مع ذلك متعارضة متدافعة، وأن مصدرها نزعة سياسية شيعية معروفة، وللشيعة فيها خرافات مخالفة لأصول الدين، لا نستحسن نشرها في هذا التفسير. وأما أحاديث نزول عيسى فبعض أسانيدها صحيحة، وهي على تعارضها واردة في أمر غيبي متعلق بأحاديث الدجال المتعارضة مثلها، كما تقدم بيانه أيضاً في ذلك البحث، فينبغي أن يفوض أمرها إلى الله تعالى، وأن لا تكون سببا للتقصير في إقامة الدين والدنيا بما شرعه الله تعالى فيهما.
وقد كان اليهود يتكلون في إعادة ملكهم في فلسطين وما جاورها على ما في كتب أنبيائهم من البشائر بظهور المسيح (مسيا) الذي يعيده لهم بخوارق العادات، فلما طال عليهم الأمد ومرت ألوف السنين ولم يقع ذلك هبوا إلى إعادته بالأسباب الكسبية، حتى إنهم سخروا الدولة الإنكليزية لمساعدتهم عليه، ومعاداة العرب وسائر المسلمين في سبيله، أفلسنا أحق بحفظ ما بقي من ملكنا، واستعادة ما فقدنا منه بكسبنا واجتهادنا، من هؤلاء اليهود على قلتهم وكثرتنا؟ بلى والله، وإن من الجهل بالدين وسنن الله في الخلق أن نقصر في ذلك اتكالاً على المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، ومتى جاء وكنا مقيمين لديننا كنا أجدر بالانتفاع به، بل لا يعقل أن يعتد المهدي والمسيح بدين أحد لا يفعل ما يستطيع في إقامة فرائض الله وحدوده، وسبق لي أن أطلت في بيان هذه المسألة في كتابي (الحكمة الشرعية) الذي ألفته في عهد طلبي للعلم في طرابلس الشام، وقد بينت في هذا السياق ما نرجوه ونتوقعه من ظهور الإسلام في المستقبل القريب، وبذلك تتم هذه البشارات على أكمل وجه، وكذا ما في معناها كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 53].
{ولو كره المشركون) ذلك الإظهار، وفيه ما تقدم في مثله من الآية السابقة، والشرك أخص من الكفر، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره على جميع الأديان سيكون بالرغم من أنوف جميع الكفار المشركين منهم بالله تعالى وغير المشركين {لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 4 7].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَدِينِ الْحَقِّ} الذي هو العمل الصالح فكان ما بعث اللّه به محمدا صلى الله عليه وسلم مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء اللّه وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب، والأرواح والأبدان من إخلاص الدين للّه وحده، ومحبة اللّه وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن هذه ليست نهاية المطاف.. إن وعد اللّه قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي، مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور اللّه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. وفي قوله: {هو الذي أرسل رسوله} صيغة قصر، أي هو لا غيره أرسَلَ رسوله بهذا النور، فكيف يَترُك معانديه يطفئونه.
واجتلاب اسم الموصول: للإيماء إلى أنّ مضمون الصلة علّة للجملة التي بُنيت عليها هذه الجملةُ وهي جملة: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32].
وعبّر عن الإسلام {بالهدى ودين الحق} تنويهاً بفضله، وتعريضاً بأنّ ما هم عليه ليس بهدى ولا حقّ.
وفعل الإظهار إذا عُدّي ب {على} كان مضمَّنا معنى النصر، أو التفضيل، أي لينصره على الأديان كلّها، أي ليكون أشرف الأديان وأغلَبها، ومنه المظاهرة أي المناصرة، وقد تقدّم ذكرها آنفاً عند قوله: {ولم يظاهروا عليكم أحداً} [التوبة: 4].
فالإسلام كان أشرفَ الأديان: لأنّ معجزة صدقه القرآن، وهو معجزة تُدرك بالعقل، ويستوي في إدراك إعجازِها جميع العصور، ولِخُلّو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى، وخلي عن وضع التكاليف الشاقّة، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم، وقد فصّلت ذلك في الكتاب الذي سمّيْته « أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».
وظهور الإسلام على الدين كلّه حصل في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلّقوا بها، وما صلحت بعضُ أمورهم إلاّ فيما حاكَوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان.
و {لو} في {ولو كره المشركون} وصلية مثل التي في نظيرتها. وذكر المشركون هنا لأنّ ظهور دين الإسلام أشدّ حسرة عليهم من كلّ أمّة، لأنّهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعَوا الأمم للتألّب عليه واستنصروا بهم فلَم يغنوا عنهم شيئاً، ولأنّ أتمّ مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها، وزالت منها جميع الأديَان الأخرى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يَبقى دينان في جزيرة العرب "فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محلّ المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كلّه كما يظهر بالتأمّل.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختم هذا الربع ببشارة كبرى بشر الله بها رسوله والمؤمنين، وهي أن يظهر الإسلام وينصره على بقية الأديان، عن طريق الحجة والبرهان، وعن طريق النفوذ والسلطان. وذلك قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}. وقد حقق الله هذه البشرى أولا في جزيرة العرب، إذ محا منها إلى الأبد كافة الملل والنحل التي كانت منتشرة فيها قبل عهد الرسالة، ثم حقق الله هذه البشرى خارج الجزيرة العربية، فطهر بلدانا عديدة وأقطارا شاسعة في جميع أطراف العالم من أوساخ المعتقدات الباطلة، ومن مظالم السلطات الزائفة، وأشع عليها نور الإسلام، بعدما كانت غارقة في الظلام. وما هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف الذي يقع في صرة العالم اليوم وعند ملتقى القارات والمحيطات، والذي هو مركز الثقل في العالم كله إلى الآن، والذي يعد أبناؤه بمئات ومئات الملايين، بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، إلا جزء من هذه البشرى، وستتلوه بحول الله وقوته بشائر أخرى...