اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ} (33)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } . يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه ، هو الذي أرسل رسوله محمداً : " بالهُدَى " ، أي : القرآن ، وقيل : ببيان الفرائض " ودين الحقِّ " وهو الإسلام ، " لِيُظهِرَهُ " ليعليه وينصره ، { عَلَى الدين كُلِّهِ } على سائر الأديان كلها { وَلَوْ كَرِهَ المشركون } فإن قيل : ظاهر قوله { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان ، وليس الأمر كذلك ، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة .

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال ابن عباسٍ " الهاءُ في " لِيُظهِرَهُ " عائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها ، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء " {[17748]} .

وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ .

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى قال : " ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام " {[17749]} .

وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : " لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام ، بِعِزِّ عزيز ، أو بذُلِّ ذليلٍ ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ " {[17750]} .

وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام ، أو أدَّى الخراج{[17751]} .

وثالثها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } في جزيرة العربِ ، وقد حصل ذلك ، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ .

ورابعها : أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام ، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون ، وظهروا عليهم في بعض المواضع ، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم ، فقهروا اليهُود ، وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند .

وخامسها : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } بالحُجَّةِ والبيانِ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله ، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ . ويمكن أن يجاب عنه ، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات ، بسبب ضعف المؤمنين ، واستيلاء الكُفَّارِ ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل ، وأمَّا بعد قوة الإسلام ، وعجز الكُفَّار ، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام .


[17748]:انظر المصدر السابق.
[17749]:أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (2/437).
[17750]:أخرجه أحمد (6/4) والحاكم (4/430) والبيهقي (9/181) والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/151) وابن حبان (1631- موارد) والطبراني في "الكبير" (20/254-255) رقم (601) عن المقداد بن الأسود. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في "المجمع" (6/17) وقال:....ورجال الطبراني رجال الصحيح. وله شاهد من حديث تميم الداري: أخرجه أحمد (4/103) والطبراني (2/58) رقم (1280) والبيهقي (9/181). وذكره الهيثمي في "المجمع" (6/17) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.
[17751]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (16/33).