ثم حكى القرآن بعد ذلك لوناً من ألوان دعاواهم الباطلة ، وأقاويلهم الفاسدة ، ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويقطع حجتهم ، فقال تعالى :
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ . . . }
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآيات آثاراً ، منها ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إن اليهود كانا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة " فأنزل الله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار . . . } الآيات .
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : " حدثني أبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لليهود أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء ، من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة ؟ قالوا : إن ربنا غضب علينا غضبة ، فنمكث في النار أربعين ليلة ، ثم نخرج فتخلفوننا فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبداً ، فنزل القرآن تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيباً لهم - نزل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً . . . } إلى قوله تعالى : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } ذلك أعداء الله اليهود ، قالوا : لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم . الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوماً ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انطقع عنا العذاب والقسم .
هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول الآيات الكريمة ، والمعنى :
وقالت اليهود - يا محمد - إن النار لن تصيبنا ، ولن نذوق حرها ، إلا أياناً قلائل - قل لهم - يا محمد - رداً على دعواهم الكاذبة هل اتخذتم من الله عهداً بذلك حتى يكون الوفاء به متحققاً ؟ أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه ؟
ثم أبطل القرآن الكريم دعواهم بأصل عام يشملهم ويشمل غيرهم فقال . ليس الأمر كما تدعون ، بل الحق أنه من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ومات علهيا دون أن يتوب إلى الله - تعالى - منها { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } بيان لضرب من ضروب غرورهم وكذبهم ، معطوف على رذائلهم السابقة التي حكاها القرآن الكريم ، إذ الضمير في قوله تعالى ( وقالوا ) يعود على اليهود الذين مر الحديث عنهم ولما ينته بعد .
والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة .
والمراد من النار : نار الآخرة . والمراد من المعدودة : المحصورة القليلة ، يقال : شيء معدود أي قليل . وشيء غير معدود أي كثير فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد يتكون سبعة أيام ، وقد تكون أربعين يوماً ، وبعدها يخرجون إلى الجنة لأن كل معدود منقض .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فيما زعموه فقال تعالى : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : قيل لهم - يا محمد - إن مثل هذا الإِخبار الجازم بأن النار لن تسمكم إلا أياماً معدودة ، لا يكون إلا ممن اتخذ عهداً من الله بذلك ، فهل تقدم لكم من الله عهد بأن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة ، فكان الوفاء متحققاً ، لأن الله - تعالى - لا يخلف وعده ، أم تقولون على الله شيئاً لا علم لكم به .
فالاستفهام للإِنكار ، وهو متوجه إلى زع1هم أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم . إن قولكم هذا يحتمل أمرين لا ثالث لهما : إما اتخاذ عهد عند الله به ، وإما القول عليه - سبحانه - بدون علم ، وما دام قد ثبت أن اتخاذ العهد لم يحصل ، إذا أنتم - يا معشر اليهود - كاذبون فيما تدعون من أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة .
قال الإِمام الرازي : قوله تعالى : { أَتَّخَذْتُمْ } ليس باستفهام بل هو إنكار ؛ لأنه لا يجوز أن يجعل الله - تعالى - حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال ، وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع ، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير .
وإنما ساق القرآن الكريم الرد عليهم في صورة الاستفهام ، لما فيه من ظهور القصد إلى تقريرهم بأنهم قالوا على الله ما لا يعلمون ، إذ هم لا يستطيعون أن يثبتوا أن الله وعدهم بما ادعوه من أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ، ولا يوجد عندهم نص صحيح من كتابهم يؤيد مدعاهم .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أبطلت مدعاهم إبطالا يحمل طابع الإِنكار والتوبيخ .
من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله ، ولا تتفق مع سنته ، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء . . أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم . . علام يعتمدون في هذه الأمنية ؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون ؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات ؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال ، وأكاذيب المحتالين العلماء ! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة ، حين يطول بهم الأمد ، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم ، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله ، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله :
( وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . قل : أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ) . .
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة : ( أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ؟ ) . . فأين هو هذا العهد ؟ ( أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) . . وهذا هو الواقع . فالاستفهام هنا للتقرير . ولكنه في صورة الاستفهام يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ !
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } ( 80 )
وقوله تعالى : { وقالوا لن تمسَّنا النارُ } الآية ، روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود من أهل النار ؟ فقالوا : نحن ثم تخلفوننا أنتم ، فقال لهم : كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم ، فنزلت هذه الآية( {[859]} ) ، ويقال إن السبب أن اليهود قالت : إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوماً عدد عبادتهم العجل ، قاله ابن عباس( {[860]} ) وقتادة ، وعطاء . وقالت طائفة : قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم ، وقال ابن عباس( {[861]} ) أيضاً ومجاهد وابن جريج : إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوماً .
و { اتخذتمْ } أصله «ايتخذتم » ، وزنه افتعلتم من الأخذ ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم » فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفاً في ياتخذوا وواواً في «موتخذ » فبدلت بحرف جلد( {[862]} ) ثابت وهو التاء وأدغمت ، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل ، ومذهب أبي علي أن { اتخذتم } من «تخذ » لا من «أخذ » وقد تقدم ذكر ذلك( {[863]} ) .
وقال أهل التفسير : العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد ، وقال ابن عباس وغيره : معناه هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون( {[864]} ) بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار ؟ ، فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى : هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون ؟ وعلى التأويل الثاني يجيء : هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون ؟ ، وقوله { فلن يخلف الله عهده } اعتراض أثناء الكلام( {[865]} ) .
قيل : الواو لعطف الجملة على جملة : { وقد كان فريق منهم } [ البقرة : 75 ] فتكون حالاً مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون : { لن تمسنا النار } . والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله { يكتبون } [ البقرة : 79 ] إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار . ووجه المناسبة أن قولهم { لن تمسنا النار } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياماً عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك ، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم . ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام .
وقوله : { وقالوا } أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله { قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب : *علام تقول الرمح يثقل عاتقي*
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } [ الأنعام : 49 ] .
وعبر عن نفيهم بحرف { لن } الدال على تأييد النفي تأكيداً لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة ( لن ) على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله : { إلا أياماً معدودة } على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية .
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا .
وتأنيث { معدودة } وهو صفة { أياماً } مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] .
وقوله : { قل أتخذتم عند الله عهداً } جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده { بلى } فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو { أم تقولون } لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له .
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك .
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و{ عند } لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يداً عند فلان .
وقوله : { فلن يخلف الله عهده } الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً } [ البقرة : 60 ] . ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسبباً عما قبلها ولا مترتباً عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن ( لن ) للاستقبال .
و ( أم ) في قوله : { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في « الإيضاح » وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم ، فما قاله صاحب « المفتاح » من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}، لأنا أبناء الله وأحباؤه، يعني ولد أنبياء الله، إلا أربعين يوما التي عبد آباؤنا فيها العجل.
{قل أتخذتم عند الله عهدا}، فعلمتم بما عهد إليكم في التوراة، فإن كنتم فعلتم "فلن يخلف الله عهده"
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وقَالُوا}: اليهود، يقول: وقالت اليهود: {لَنْ تَمَسّنا النّارُ}، يعني لن تلاقي أجسامنا النار، ولن ندخلها إلا أياما معدودة. وإنما قيل {معدودة} وإن لم يكن مبينا عددها في التنزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام التي يوقتونها لمكثهم في النار، فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام وسماها معدودة لما وصفنا.
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك. فقال بعضهم: أعداء الله اليهود قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تَحِلّةَ القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب والقسم.
وقال آخرون: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذّب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الاَخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً} الآية...
لما قالت اليهود ما قالت من قولها: {لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً} على ما قد بينا من تأويل ذلك، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمعشر اليهود {أتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا}، أخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا فالله لا ينقض ميثاقه ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون على الله الباطل جهلاً وجراءة عليه... {أتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا} بهذا الذي تقولونه، ألكم بهذا حجة وبرهان "فَلَنْ يَخْلفَ اللّهُ عَهْدَهُ "فهاتوا حجتكم وبرهانكم "أمْ تَقُولُونَ عَلى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"...
{قُلْ أتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا}: أدّخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إلَه إلا الله لم تشركوا، ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إلَه إلا الله، ولم تشركوا به شيئا، ثم متّم على ذلك لكان لكم ذخرا عندي، ولم أخلف وعدي لكم أني أجازيكم بها.
وهذه الأقوال التي رويناها...بنحو ما قلنا في تأويل قوله: {قُلْ أتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدا} لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه أن من آمن به وأطاع أمره نجّاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به الإقرارُ بأن لا إلَه إلا الله، وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار فينجيه منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أجمع أهل التفسير والكلام على صرف الأيام المعدودة المذكورة في هذه الآية إلى أيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له لوجهين: أحدهما: أن هؤلاء لم يعبدوا العجل، وإنما عبد آباؤهم، فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء.
والثاني: لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضا لأنهم قد تابوا، ورجعوا عن ذلك، فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله كقوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وتصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذي عصوا فيه، لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب، أو لما لم يكونوا يرون التخليد في النار أبدا، أو لما هم عند أنفسهم كما أخبر الله عنهم يقولون إنا لا نعذب أبدا، إنما نعذب تعذيب الأب ابنه الحبيب ونعذب في وقت قليل، ثم يرضى، وندخل الجنة. ولكن عقوبة الكفر أبدا والتخليد فيها لا لوقت. فعلى ذلك جزاؤه للأبد لا لوقت.
أحدهما: هل خبر عن الله تعالى بأنكم لا تعذبون أبدا، ولكن أياما معدودة؟ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.
والثاني {أتخذتم عند الله عهدا} أي ألكم أعمال صالحة عند الله، فوعدكم بها الجنة، فهو لا يخلف وعده؟ أي ليس لكم واحد من هذين: لا خبر عن الله بأنه لا يعذبكم، ولا أعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.
{أم تقولون على الله ما لا تعلمون} هذا إكذاب من الله عز وجل إياهم بذلك القول، كأنه قال: بل تقولون على الله ما لا تعلمون.
وقوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة}؛ قيل في معنى معدودة: إنها قليلة، كقوله: {وشَرَوْهُ بثمن بخس دراهم معدودة} [يوسف: 20] أي قليلة... وقال تعالى: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات} [البقرة: 183 و 184]، فسمى أيام الصوم في هذه الآية معدودات وأيام الشهر كله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة في هذه الآية لمن مرت على قلبه دعاواه العريضة، وغلب عليه حسبانه، فحكم لنفسه -لفرط غفلته- بأنه من أهل القصة ويَخْلَدُ إلى هواجس مناه، فيحكم على الغيب بأنه يُتَجاوز عنه؛ نَسِيَ قبائح ما أسلفه، ويذكر مغاليط ما ظنَّه، فهو عَبْدُ نَفْسِه يغلب عليه حسن ظنه، وفي الحقيقة تعتريه نتائج غفلته ومكره.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم؛ وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما قليلة، وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل البتة أما على قولنا، فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله، فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي،...فثبت أن... لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي، وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك، {قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده}... فيه مسائل:
المسألة الأولى: العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر، وإنما سمي خبره سبحانه عهدا لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم...
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {اتخذتم} ليس باستفهام، بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم، بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
{أم تقولون على الله ما لا تعلمون}، توبيخ وتقريع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أرشد الكلام إلى أن التقدير: فحرفوا كثيراً في كتاب الله وزادوا ونقصوا، عطف عليه ما بين به جرأتهم وجفاهم وعدم اكتراثهم بما يرتكبونه من الجرائم التي هم أعلم الناس بأن بعضها موجب للخلود في النار فقال تعالى:
{وقالوا لن تمسّنا} من المس وهو ملاقاة ظاهر الشيء ظاهر غيره
{إلا أياماً} ولما كان مرادهم بذلك أنهم لا يخلدون فيها وكان جمع القلة وإن كان يدل على ذلك لكنه ربما استعير للكثرة فدل على ما لا آخر له أو ما يعسر عده زادوا المعنى تأكيداً وتصريحاً بقولهم: {معدودة} أي منقضية، لأن كل معدود منقض.
قال الحرالي: والعدّ اعتبار الكثرة بعضها ببعض، واقتصر على الوصف بالمفرد لكفايته في هذا المعنى بخلاف ما في آل عمران.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَقَالُواْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم، وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلقوها ولم يكتبوها في الكتاب أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه،
{عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوعَه، وإنما عُلّق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعَه -مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه- للمبالغة في التوبيخ والنكير، فإن التوبيخَ على الأدنى مستلزِمٌ للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى، وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه مستلزِمٌ له، لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ذكر أفعالهم القبيحة، ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله، والفوز بثوابه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، أي: قليلة تعد بالأصابع، فجمعوا بين الإساءة والأمن. ولما كان هذا مجرد دعوى، رد الله تعالى عليهم فقال:
{قُلْ} لهم يا أيها الرسول: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}... وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا، لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء، حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون، قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم، من أعظم المحرمات، وأشنع القبيحات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله، ولا تتفق مع سنته، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء... أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم... علام يعتمدون في هذه الأمنية؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال، وأكاذيب المحتالين العلماء! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة، حين يطول بهم الأمد، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله... وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة: (أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟).. فأين هو هذا العهد؟ (أم تقولون على الله ما لا تعلمون).. وهذا هو الواقع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووجه المناسبة أن قولهم {لن تمسنا النار} دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة... فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.
والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا.
وتأنيث {معدودة} وهو صفة {أياماً} مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات...
{قل أتخذتم عند الله عهداً} جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات...
والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده {بلى} فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو {أم تقولون} لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك.
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و {عند} لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يداً عند فلان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أولهما – بيان أنهم صنف مختار والعذاب والحساب على غيرهم، فهم الذين يحاسبون ويعاقبون، أما هم فهم فوق الحساب، وفوق العقاب.
وثانيهما – الاستهانة بأوامر الله تعالى، وما يكون وراء ذلك من حساب أو عقاب. ويبين سبحانه أن ذلك الوهم الذي يتوهمونه، ويغترون به ليس له أساس يعتمدون عليه، وأنهم لا عهد لهم بذلك
{أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده} الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وتوبيخهم على فعلهم الواثقين به في ذات أنفسهم الموقنين به كأن الله عاهدهم، والمعنى أن الله تعالى لم تأخذوا منه عهدا عاهدكم عليه، وهو وحده الذي يملك العقاب ومقداره، بألا يعاقبكم إلا بهذا القدر، وهو أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فالاستفهام... يتضمن التعريض بنقضهم للعهود التي أخذت عليهم والمواثيق التي وثقها وأكدها، ومنها رفع الطور عليهم، وأخذهم ما أوتوا بقوة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتتصدى الآيات الكريمة للرد عليهم، وإبطال ما يدعونه لأنفسهم من امتياز وتفضيل على بقية الملل، بدعوى أنهم (شعب الله المختار)، فتحكي قولهم: {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}.
ثم أكد القرآن الكريم أن حكم الله واحد لا يتبدل، بالنسبة لكل من انحرف عن سواء السبيل، كيفما كانت ملته، ومهما كانت نسبته، وعقب على ذلك بمبدأ عام ينطبق على الجميع لا استثناء فيه ولا تخصيص، {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وأعاد الحديث عنهم مرة أخرى فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86)}...
هنا يكشف الله سبحانه وتعالى فكر هؤلاء الناس.. لقد زين لهم الشيطان الباطل فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به.. لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا... ولذلك يفضح الله تبارك وتعالى ما يقولونه بعضهم مع بعض...
ماذا قالوا؟: {قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}. المس يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء.. ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا لا يكاد يذكر...
{قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب.. ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا أياما معدودة...
[و] قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... دليل على غبائهم لأن مدة المس لا تكون إلا لحظة... ولكنها أماني وضعها الشيطان في عقولهم ليأتي الرد من الله في قوله سبحانه:
{قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده} أي إذا كان ذلك وعداً من الله، فالله لا يخلف وعده. والله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى بكم... بل هو جل جلاله الذي يحكم... فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده.
{أم تقولون على الله ما لا تعلمون}... هنا أدب النبوة والخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم... فبدلا من أن يقول لهم أتفترون على الله أو أتكذبون على الله... أو أتختلقون على الله ما لم يقله... قال: {أم تقولون على الله ما لا تعلمون} إن الذي يختلق الكلام يعلم أنه مختلق... إنه أول من يعلم كذب ما يقول، وقد يكون له حجة ويقنع من أمامه فيصدقه، ولكنه يظل يعلم إن ما قاله مختلق رغم أنهم صدقوه... ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" 757. إذن مختلق الشيء يعرف إن هذا الشيء مختلق. وهؤلاء اليهود هم أول من يعلم إن قولهم.. {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} قول مختلق.. ولكن لمن يقولون على الله ما هو افتراء وكذب؟ يقولون للأميين الذين لا يعرفون الكتاب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّه عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّه عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهذه هي القاعدة النفسية اليهودية المرتكزة على الذهنية المستعلية التي تنظر إلى النّاس من الموقع الفوقي، باعتبار أنهم شعب اللّه المختار، وأنَّ النّاس يقفون في الدرجات الدنيا ليكونوا خدماً لهم يلبّون حاجاتهم وقضاياهم العامة والخاصة.
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} فلن يخلّدنا اللّه في عذاب النّار لأننا أبناؤه وأحباؤه وشعبه المختار، فلا يعاقبنا إلاَّ كما يعاقب الأب أولاده، والمحبّ حبيبه، بطريقة تأديبية حميمة يمتزج فيها الحبّ بالعقوبة بشكل خفيف لا يستمر طويلاً، لأنَّ الرحمة تسبق الغضب عندما يتحرّك في مثل هذه المواقع، وتلك هي التخيّلات النفسية التي [تجنح إلى [تحوّيل] الأمنية إلى حقيقةٍ في الواقع
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -إبطال الانتفاع بالنّسب والانتساب، وتقرير أن سعادة الإِنسان كشقائه مردهما... إلى الإيمان والعمل الصالح... [أو] الشرك والمعاصي...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإِخبار عن عقيدة من ضلالاتهم، ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإِجرام. وبيان ذلك أنهم اعتقدوا أنهم لا نجاة لهم من هذا العذاب سواء أقلوا من المعاصي أم أكثروا، فلذلك لم يبالوا بمعصية يرتكبونها أو حرمة ينتهكونها أو واجب مقدس يضيعونه وقد بيّن لنا الحق تعالى في سورة آل عمران أن عقيدتهم هذه مصدر نبذهم الكتاب وراء ظهورهم، وذلك حيث قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23-24]...