79- فالهلاك والعذاب لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون كتباً بأيديهم ، ثم يقولون للأميين : هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله ، ليصلوا من وراء ذلك إلى غرض تافه من أغراض الدنيا فيشتروا التافه من حطام الدنيا بثمن غال وعزيز هو الحقيقة والصدق ، فويل لهم مما تقوَّلوه على الله ، وويل لهم مما يكسبون من ثمرات افترائهم .
وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود ، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } :
والمعنى : فهلاك وفضيحة وخزى لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم ، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق ، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذباً وبهتاناً هذا من عند الله ، ومن نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ليأخذوا في نظير ذلك عرضاً يسيراً من حطام الدنيا ، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله ، وخزى كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق .
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله .
وصرح - سبحانه - بأن الكتابة ب { أَيْدِيهِمْ } ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد ، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها ، ولتصور حالتهم في النفوس كما وقعت ، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً لهيئتهم .
وقوله تعالى : { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } كشف عن كذبهم وفجورهم ، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان .
ثم بين - سبحانه - العلة التي حملنه على التحريف والكذب فقال تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي كتبوا الكتابة بأيديهم ، ونسبوها إلى الله زوراً وبهتاناً ؛ ليحصلوا على عرض قليل من أعراض الدنيا ، كاجتلاب الأموال الحرام ، وانتحال العلم لأنفسهم والطمع في الرئاسة والجاه ، وإرضاء العامة بما يوافق أهواءهم .
وعبر - سبحانه - عن الثمن بأنه قليل ، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب ، وحرموه من الثواب المقيم .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف ، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل ، فهو وعيد لهم على الوسيلة - وهي الكتابة - وعلى الغاية - وهي أخذ المال بغير حق - .
قال الشيخ القاسمي : قال الراغب : فإن قيل : لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل ، و { كَتَبَتْ } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا ، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة ، فهي كذب باللسان واليد . وكلام اليد يبقى رسمه ، أما القول فقد يضمحل أثره " .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع ، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله - تعالى - وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله .
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )
فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق ، وأن يستقيموا على الهدى ، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه ؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين . وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم . الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله ؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق !
قوله عز وجل : ( {[848]} )
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } ( 79 )
{ الذين } في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء ، قال الخليل : الويل شدة الشر ، وقال الأصمعي : الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له ، ويجمع على ويلات ، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع ، لأنه يقتضي الوقوع( {[849]} ) ، ويصح النصب على معنى الدعاء( {[850]} ) أي ألزمه الله ويلاً ، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى ، وقد فرق بينها قوم( {[851]} ) ، وروى سفيان وعطاء بن يسار( {[852]} ) أن الويل في هذه الآية : واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وادٍ في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفاً( {[853]} ) ، وقال أبو عياض : إنه صهريج في جهنم ، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار( {[854]} ) . وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم ، و { الذين يكتبون } : هم الأحبار الذين بدلوا التوراة .
وقوله تعالى : { بأيديهم } بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله ، وفرق بين من كتب وبين من أمر ، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله ، وإن كان رأياً له ، وقال ابن السراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم( {[855]} ) ، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم ، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم ، وقال ابن إسحاق : كانت صفته في التوراة أسمر ربعة ، فردوه آدم طويلاً ، وذكر السدي أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله ، وتناسق( {[856]} ) هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم .
والثمن قيل عرض الدنيا ، وقيل الرشا( {[857]} ) والمآكل التي كانت لهم ، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراماً ، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها( {[858]} ) ، { يكسبون } معناه من المعاصي والخطايا ، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فوَيْلٌ"؛
فقال بعضهم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} يقول: فالعذاب عليهم.
وقال آخرون: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم... الويل: واد من صديد في جهنم...
وقال آخرون: الوَيْلُ جَبَلٌ فِي النّارِ...
فمعنى الآية على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل "وَيْلٌ": فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.
{لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً}.
يعني بذلك: الذين حرّفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله لطلب عرض من الدنيا خسيس، فقال الله لهم: {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}...
إن قال لنا قائل: ما وجه "فوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكُتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ"؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة إلى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قصّ الله قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قيل له: إن الكتاب من بني آدم وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه، فيقال: كتب فلان إلى فلان بكذا، وإن كان المتولي كتابته بيده غير المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: {فَوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ} عباده المؤمنين أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله تكذّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: {يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ} أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: باعني فلان عينه كذا وكذا، فاشترى فلان نفسه كذا، يراد بإدخال النفس والعين في ذلك نفي اللبس عن سامعه أن يكون المتولي بيع ذلك وشراءه غير الموصوف به بأمره، ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه فكذلك قوله: {فَوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ}.
{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ}:
{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فالعذاب في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم لهم، يعني للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بني إسرائيل محرّفا، ثم قالوا: هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.
"مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِم": من الذي كتبت أيديهم من ذلك.
{وَوَيْلٌ لَهُمْ أيضا مِمّا يَكْسِبُونَ} يعني مما يعملون من الخطايا، ويجترحون من الآثام، ويكسبون من الحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم، بخلاف ما أنزل الله، ثم يأكلون ثمنه وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله... {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ} يعني من الخطيئة.
وأصل الكسب: العمل، فكل عامل عملاً بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون بأيديهم} قيل: الويل: الشدة، وقيل: الويل: هو قول كل مكروب وملهوف يقول: ويل له بكذا.
{يكتبون الكتاب بأيديهم} يحتمل وجهين:
يحتمل (يكتبون) يمحون بعثه وصفته عن التوراة،
ويحتمل (يكتبون) يحدثون كتابة على غير بعثه وصفته.
{ثم يقولون هذا من عند الله} فتكون الكتابة في هذا إثباتا كقوله: {كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة: 22]. والمثبت هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك في الأصل.
{فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} ذكر لهم ثلاث ويلات:
أحدها: ويل بإحداث كتابة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه وتغييره.
والثاني: بقولهم: {هذا من عند الله}
والثالث: {وويل لهم مما يكسبون} من المأكلة والهدايا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الويل: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة. وأصله في اللغة: العذاب والهلاك...
وأصل الكسب: العمل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل. ومعناه هاهنا الاحتراف فهو كاسب لما عمل. وقيل الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة، ومنه قيل للجوارح من الطير: كواسب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين} في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء.
{بأيديهم} بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأياً له، وقال ابن السراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم.
وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم.
والثمن قيل عرض الدنيا، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم.
ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراماً، وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها.
قال القاضي: «ويل» يتضمن نهاية الوعيد والتهديد، فهذا القدر لا شبهة فيه سواء [أكان] الويل عبارة عن واد في جهنم [أم] عن العذاب العظيم.
{يكتبون الكتاب بأيديهم}... فيه وجهان.
الأول: أن الرجل قد يقول كتبت إذا أمر بذلك ففائدة قوله: {بأيديهم} أنه لم يقع منهم إلا على هذا الوجه.
الثاني: أنه تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد.
{ثم يقولون هذا من عند الله}...المراد أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا وباعوا آخرتهم بدنياهم، فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم، فإن المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه، فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال، ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها، ويضم إليها أنه مهد طريقا في الإضلال باقيا على وجه الدهر، فلذلك عظم تعالى ما فعلوه.
فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم أمرين. أحدهما: كتبة الكتاب والآخر: إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب، فهذا الوعيد مرتب على الكتبة أو على إسناده المكتوب إلى الله أو عليهما معا؟ قلنا: لا شك أن كتبة الأشياء الباطلة لقصد الإضلال من المنكرات والكذب على الله تعالى أيضا كذلك والجمع بينهما منكر عظيم جدا.
{ليشتروا به ثمنا قليلا}... تنبيه على أمرين.
الأول:...نهاية شقاوتهم، لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر العظيم في الدنيا، فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا.
الثاني: أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة، بل إنما فعلوه طلبا للمال والجاه، وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم، لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا، ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه. واختلفوا في قوله تعالى: {مما يكسبون} هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم، والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل، لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد، لم يحسن الوعيد عليه، لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام، فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا.
والويل: معناه الفضيحة والحسرة،وأكثر استعمال الأيادي في النعم، ولو صح في تفسير الويل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب المصير إليه. وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة
[و] ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عند أنفسهم، من غير أن ينزل عليهم. ولا يدل على ما ذكر، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها، التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم: {يقولون هذا من عند الله}، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال. {ثم يقولون}: أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الويل: جماع الشر كله -قاله الحرالي.
وفي هذه الآية بيان لما شرف به كتابنا من أنه لإعجازه لا يقدر أحد أن يأتي من عنده بما يدسه فيه فيلبس به- فللّه المنّة علينا والفضل.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وكرر الويل؛ تغليظاً عليهم، وتعظيماً لفعلهم، وهتكاً لأستارهم.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضاً بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم. {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} أي ليحصلوا بما أشاروا إليه غرضاً من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو وإن جل أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: إن قيل: لم ذكر {يكسبون} بلفظ المستقبل و {كتبت} بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيها على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) فنبه بالآية أن ما أصّلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة، التي يعتمدها الجهلة، هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا.
[فإن قيل] لم ذكر الكتابة دون القول؟ أجبنا: لمّا كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه، إذ هو كذب باللسان واليد، صار أبلغ، لأن كلام اليد يبقى رسمه والقول يضمحل أثره.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال المفسر [الجلال] إنهم كانوا يكتبون الأحكام على خلاف ما هي عليه في الكتاب كآية الرجم ووصف النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأستاذ الإمام لو كان هذا هو المراد من هذه الآية لما بدئ الكلام بالفاء وإنما الآية وعيد على أن لبسوا على الناس بالكتابة وتأليف الكتب الدينية وإيهام العامة أن كل ما كتبوه فيها مأخوذ من كتاب الله كما يعتقد المقلدون من كل ملة بكتب الدين التي يؤلفها علماؤهم في الأصول والفروع، حتى إن بعضهم يقول إن اختلافها لا ينافي كونها من عند الله خلافا لقوله تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}. فهذه الكتب هي مثار الأماني والغرور، ولذلك أنذر على أصحابها الهلاك بعد ما ذكر أصناف اليهود من منافقين ومحرفين وأميين فقال {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله}
أقول: أي ويل وهلاك عظيم لأولئك العلماء الذي يكتبون الكتب بأيديهم ويودعونها آراءهم ويحملون الناس على التعبد بها قائلين: إن ما فيها من عند الله، ويمكن الاستغناء بها عن كتاب الله الذي نفهم منه مالا يفهم غيرنا: يخطبون بتلك الكتب ميل العامة وودهم، ويبتغون الجاه عندهم ويأكلون أموالهم بالدين. ولذلك قال {ليشتروا به ثمنا قليلا} وكل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها، وأرفعها وأعلاها، ولذلك كرر الوعيد فقال {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} فالهلاك والويل محيط بهم من أقطارهم ونازل بهم من جانب الوسيلة ومن جانب المقصد...
قال الأستاذ الإمام: من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه أولئك اليهود، فلينظر فيما بين يديه فإنه يراها واضحة جلية. يرى كتبا ألفت في عقائد الدين وأحكامه حرفوا فيها مقاصد وحولوها إلى ما يغر الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم، ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله. وإنما هي صادة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به.
رجل مارق من الدين يتعمد إفساده ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح ويخادع بذلك الناس ليقبلوا ما يكتب ويقول.
ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه. ثم ذكر الأستاذ وقائع طابق فيها بين ما كان عليه اليهود من قبل وما عليه المسلمون الآن – ذكر وقائع للقضاة والمأذونين، وللعلماء والواعظين، فسقوا فيها عن أمر ربهم، فمنهم من يتأول ويغتر بأنه يقصد نفع أمته كما كان أحبار اليهود يفتون بأكل الربا أضعافا ليستغني شعب إسرائيل، ومنهم من يفعل ما يفعل عامدا عالما أنه مبطل ولكن تغره أماني الشفاعات والمكفرات...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ} إلى {يَكْسِبُونَ} فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصله من البدع الباطلة. وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله، لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معنى الكتاب والسنة، وهذا معقول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية. ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة، لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله. وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة، كالرافضة، وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
لا تكتفي [الآيات] بفضح ما يدعيه جمهورهم من العلم بالكتاب على ما هو عليه من جهل، حتى تصم النخبة منهم، بوصمة التزوير والتلفيق، لا في النصوص العادية المجردة، بل في أقدس النصوص، نصوص الوحي الإلهي والكتب المنزلة، تلاعبا منهم بالدين، ومتاجرة بالعقيدة...
إن الله سبحانه وتعالى يريد هنا أن يبين لنا مدى تعمد هؤلاء للإثم.. فهم لا يكتفون مثلا بأن يقولوا لغيرهم اكتبوا... ولكن لاهتمامهم بتزييف كلام الله سبحانه وتزويره يقومون بذلك بأيديهم ليتأكدوا بأن الأمر قد تم كما يريدون تماما... فليست المسألة نزوة عابرة...ولكنها مع سبق الإصرار والترصد... وهم يريدون بذلك أن يشتروا ثمنا قليلا، هو المال أو ما يسمى بالسلطة الزمنية... يحكمون ويكون لهم نفوذ وسلطان.
ولقد كان أهل الكتاب في الماضي إذا اختلفوا في شيء... ذهبوا إلي الكهان والرهبان وغيرهم ليقضوا بينهم... لماذا؟ لأن الناس حين يختلفون يريدون أن يستتروا وراء ما يحفظ كبرياؤهم إن كانوا مخطئين...
ولكن رجال الدين اليهودي والمسيحي أخذوا يصدرون فتاوى متناقضة... كل منهم حسب مصلحته وهواه... ولذلك تضاربت الأحكام في القضايا المتشابهة...لأنه لم يعد الحكم بالعدل... بل أصبح الحكم خاضعا لأهواء ومصالح وقضايا البشر...
وحين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله... إنما يريدون أن يخلعوا على المكتوب قداسة تجعل الإنسان يأخذه بلا مناقشة... وبذلك يكونون هم المشرعين باسم الله، ويكتبون ما يريدون ويسجلونه كتابة، وحين أحس أهل الكتاب بتضارب حكم الدين بما أضافه الرهبان والأحبار، بدأوا يطلبون تحرير الحكم من سلطة الكنيسة... لقد انتشرت هذه المسألة في كتابة صكوك الغفران التي كانت تباع في الكنائس لمن يدفع أكثر.
{وويل لهم مما يكسبون}... كلمة كسب تدل على عمل من أعمال جوارحك يجلب لك خيرا أو نفعا... وهناك كسب وهناك اكتسب. كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار... ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: {وويل لهم مما يكسبون}... وفي آية ثانية قال: {بلى من كسب سيئة}. فلماذا تم هذا الاستخدام؟
نقول إن هذا ليس كسبا طبيعيا، إنما هو افتعال في الكسب... أي اكتساب... ولابد أن نفهم إنه بالنسبة لجوارح الإنسان... فإن هناك القول والفعل والعمل... بعض الناس يعتقد إن هناك القول والعمل... نقول لا... هناك قول هو عمل اللسان... وفعل هو عمل الجوارح الأخرى غير اللسان... وعمل وهو أن يوافق القول الفعل... لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون "2 "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون "3 "} (سورة الصف). إذن هناك قول وفعل وعمل... والإنسان إذا استخدم جوارحه استخداما سليما يفعل ما هو صالح له... فإذا انتقل [مما] [هو صالح إلى ما [هو] غير صالح [مما] يغضب الله فإن جوارحه لا تفعل ولكنها تفتعل... تتصادم ملكاتها بعضها مع بعض والإنسان وهو يفتح الخزانة ليأخذ من ماله يكون مطمئنا لا يخاف شيئا، والإنسان حين يفتح خزانة غيره يكون مضطربا وتصرفاته كلها افتعال... وكل من يكسب شيئا حراما افتعله... ولذلك يقال عنه اكتسب... إلا إذا تمرس وأصبح الحرام لا يهزه، أو ممن نقول عنهم معتادو الإجرام [ف] في هذه الحالة يفعل الشيء بلا افتعال لأنه اعتاد عليه... هؤلاء الذين وصلوا إلى الحد الذي يكتبون فيه بأيديهم ويقولون [هو] من عند الله... أصبح الإثم لا يهزهم، ولذلك توعدهم الله بالعذاب مرتين في آية واحدة...