ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة ، بتحريض اشد وأقوى على الإنفاق فى وجوه الخير ، فقال - تعالى - : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } .
قال القرطبى : القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، وأقرض فلان فلانا ، أى : أعطاه ما يتجازاه واستقرضت من فلان أى : طلبت منه القرض فأقرضنى ، واقترضت منه أى : أخذت منه القرض . وأصل الكلمة : القطع . ومنه المقراض ، وأقرضته ، أى : قطعت له من مالى قطعة يجازى عليها .
ثم قال : والتعبير بالقرض فى هذه الآية ، إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغنى الحميد ، لكنه - تعالى - شبه عطاء المؤمن فى الدنيا بما يرجو به ثوابه فى الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس والأموال فى أخذ الجنة بالبيع والشراء " .
والقرض الحسن : هو الإنفاق من المال الحلال ، مع صدق النية ، دون رياء أو سمعة . أو منٍّ أو أذى مع تحرى أوسط الأموال .
والاستفهام : للحض على البذل والعطاء ، والتحريض على التحلى بمكارم الأخلاق .
و { مَّن } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذَا } اسم إشارة خبره ، و { الذي } وصلته صفة لاسم الإشارة ، أو بدل منه .
والمعنى : من هذا المؤمن القوى الإيمان ، الذى يقدم ماله فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وفى غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المختاجين ، وسد حاجة البائسين . . . { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أى : فيعطيه - سبحانه - أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة .
{ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ، أى : ولهذا المنفق - فضلا عن كل ذلك - أجر كريم عند خالقه ، لا يعلم مقداره إلا هو - تعالى - .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على ألوان من الحض على الإنفاق فى وجوه الخير .
ومن ذلك التعبير بالاستفهام فى ذاته ، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة .
ومن ذلك - أيضا - التعبير بقوله : { مَّن ذَا الذي } . . إذ لا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر ، وكأن المخاطب لعظم شأنه ، من شأنه أن يشار إليه ، وأن يجمع له بين اسم الإشارة وبين الاسم الموصول .
ومن ذلك تسميته ما يبذله الباذل قرضا ، ولمن هذا القرض ؟ إنه لله الذى له خزائن السموات والأرض .
فكأنه - تعالى - يقول : أقرضونى مما أعطيتكم ، وسأضاعف لكم هذا القرض أضعافا مضاعفة ، يوم القيامة { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ، وضم الأجر الكريم إليها .
ومن ذلك التعبير عن الإنفاق بالقرض ، إذ القرض معناه : إخراج المال . وانتظار ما يقابله من بدل .
والخلاصة أن هذه الآية وما قبلها ، فيها ما فيها من الدعوة إلى الإنفاق فى وجوه الخير ، وإلى الجهاد فى سبيل الله .
ثم مرحلة أخرى في استجاشة القلوب للإيمان والبذل ، ومؤثرات أخرى وراء تلك المؤثرات :
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ? يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ذلك هو الفوز العظيم . يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم . قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب . ينادونهم : ألم نكن معكم ? قالوا : بلى ! ولكنكم فتنتم أنفسكم ، وتربصتم ، وارتبتم ، وغرتكم الأماني ، حتى جاء أمر الله ، وغركم بالله الغرور . فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، مأواكم النار هي مولاكم ، وبئس المصير ) . .
إنه هتاف موح مؤثر آسر . وهو يقول للعباد الفقراء المحاويج : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ? ) . . ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه ، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيرانا ! إن الناس ليتسابقون عادة إلى إقراض الثري المليء منهم - وهم كلهم فقراء - لأن السداد مضمون . ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري المليء ! فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد ? !
ولا يكلهم - سبحانه - إلى هذا الشعور وحده ، ولكن يعدهم على القرض الحسن ، الخالص له ، المجرد من كل تلفت إلى سواه . يعدهم عليه الضعف في المقدار ، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله : ( فيضاعفه له ، وله أجر كريم ) .
وقوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } الآية ، قال بعض النحويين : { من } ابتداء و : { ذا } خبر ، و { الذي } صفة ، وقال آخرون منهم : { من } ابتداء و : { ذا } زائد مع الذي ، و { الذي } خبر الابتداء ، وقال الحسن : نزلت هذه الآية في التطوع في جميع أمر الذين . والقرض : السلف ونحوه أن يعطي الإنسان شيئاً وينتظر جزاءه ، والتضعيف من الله هو في الحسنات ، يضاعف الله لمن يشاء من عشرة إلى سبعمائة ، وقد ورد أن التضعيف يربى على سبعمائة ، وقد مر ذكر ذلك في سورة البقرة بوجوهه من التأويل{[10964]} .
وقرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي : «فيضاعفُه » بالرفع على العطف أو على القطع والاستئناف . وقرأ عاصم : «فيضاعفَه » بالنصب في الفاء في جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلق . قال أبو علي : لأن السؤال لم يقع عن القرض ، وإنما يقع السؤال عن فاعل القرض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : { من ذا الذي يقرض } بمنزلة أن لو قال : أيقرض الله أحداً فيضاعفه ؟ وقرأ ابن كثير «فيضعّفُه » مشددة العين مضمومة الفاء . وقرأ ذلك ابن عامر ، إلا أنه فتح الفاء .
والأجر الكريم الذي يقرض به رضى وإقبال ، وهذا معنى الدعاء : يا كريم العفو ، أي أن مع عفوه رضى وتنعيماً وعفو البشر ليس كذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} يعني طيبة به نفسه على أهل الفاقة {فيضاعفه له وله أجر كريم} يعني جزاء حسنا في الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: من هذا الذي ينفق في سبيل الله في الدنيا محتسبا في نفقته مبتغيا ما عند الله، وذلك هو القرض الحسن، يقول: فيضاعف له ربه قرضه ذلك الذي أقرضه، بإنفاقه في سبيله، فيجعل له بالواحدة سبع مئة...
"وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ" يقول: وله ثواب وجزاء كريم، يعني بذلك الأجر: الجنة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) هو التطوع في جميع الدين...
معناه من ذا الذي ينفق في سبيل الله إنفاقا كالقرض، والقرض: أخذ الشيء من المال بإذن صاحبه بشرط ضمان رده، وأصله القطع، فهو قطعه عن مالكه بإذنه لإنفاقه على رد مثله... (فيضاعفه له) فالمضاعفة: الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله، وقد وعد الله بالحسنة عشر أمثالها، والإنفاق في سبيل الله حسنة فهو داخل في هذا الوعد. ومن شدد العين، فلأن الله وعد بالحسنة عشر أمثالها... وقوله (وله أجر كريم) معناه إن له مع مضاعفة ما أنفقه أجرا زائدا كريما، فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير العظيم، فلما كان الأجر يعطي النفع العظيم، كان الأجر كريما...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المراد بالقرض الصدقة، وإنما ذكرها سبحانه كذلك تطييباً لقلوبهم، فكأن المتصدِّق وهو يقرض شيئاً كالذي يقطع شيئاً من ماله ليدفَعه إلى المُسْتَقْرِض.ويقال: {يُقْرِضُ} أي يفعل فعلاً حسناً، وأراد بالقرض الحسن ها هنا ما يكون من وجهٍ حلالٍ ثم عن طٍيبِ قلبٍ، وصاحبُه مخلِصٌ فيه، بلا رياء يشوبه، وبلا مَنِّ على الفقير، ولا يُكَدِّره تطويلُ الوعد ولا ينتظر عليه كثرة الأعواض...
المسألة الثالثة: اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق، فمنهم من قال: المراد الإنفاقات الواجبة، ومنهم من قال: بل هو في التطوعات، والأقرب دخول الكل فيه.
المسألة الرابعة: ذكروا في كون القرض حسنا وجوها.
(وثالثها): قال بعض العلماء: القرض لا يكون حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة؛
(الأول): أن يكون من الحلال... (والثاني): أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء... (الثالث): أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة... (والرابع): أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها... (الخامس): أن تكتم الصدقة ما أمكنك...
(السادس): أن لا تتبعها منا ولا أذى...
(السابع): أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي...
(الثامن): أن تستحقر ما تعطي وإن كثر، لأن ذلك قليل من الدنيا، والدنيا كلها قليلة...
(التاسع): أن يكون من أحب أموالك إليك...
(العاشر): أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك...
فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضا حسنا،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{من} وأكد بالإشارة بقوله: {ذا} لأجل ما للنفوس من الشح {الذي يقرض الله} أي يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام بإعطاء المستحق لأجله عطاء من ماله هو على صورة القرض لرجائه الثواب... {فيضاعفه له} مرغباً فيه بجعله مبالغاً بالتضعيف أولاً وجعله من باب المفاعلة ثانياً... ولما كانت المضاعفة منه سبحانه لا يعلم كنهها إلا هو قال: {وله} أي المقرض من بعد ما تعقلونه من المضاعفة زيادة على ذلك {أجر} لا يعلم قدره إلا الله، وهو معنى وصفه بقوله: {كريم} أي حسن طيب زاك نام.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا}... فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وهذا الأسلوب يستعمل في الأمر العزيز النادر فيقال: من ذا الذي يفعل كذا، إذا كان أمرا عظيما، وعلى هذا جاء قوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة: 255).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا؟).. ومجرد تصور المسلم أنه هو الفقير الضئيل يقرض ربه، كفيل بأن يطير به إلى البذل طيرانا! إن الناس ليتسابقون عادة إلى إقراض الثري المليء منهم -وهم كلهم فقراء- لأن السداد مضمون. ولهم الاعتزاز بأن أقرضوا ذلك الثري المليء! فكيف إذا كانوا يقرضون الغني الحميد؟! ولا يكلهم -سبحانه- إلى هذا الشعور وحده، ولكن يعدهم على القرض الحسن، الخالص له، المجرد من كل تلفت إلى سواه. يعدهم عليه الضعف في المقدار، والأجر الكريم بعد ذلك من عند الله: (فيضاعفه له، وله أجر كريم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من} استفهامية كما هو شأنها إذا دخلت على اسم الإشارة والموصول، و {الذي يقرض} خبرها، و {ذا} معترضة لاستحضار حال المقترض بمنزلة الشخص الحاضر القريب...ومعنى {وله أجر كريم}: أن له أنفس جنس الأجور لأن الكريم في كل شيء هو النفيس...
وجعل الأجر الكريم مقابل القرض الحسن فَقُوبِل بهذا موصوف وصفته بمثلهما. والمضاعفة: مماثلة المقدار، فالمعنى: يعطيه مثلي قرضه. والمراد هنا مضاعفته أضعافاً كثيرة...
وقال: {من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} [البقرة: 245].والأجر: ما زاد على قضاء القرض من عطية يسديها المستسلف إلى من سلفه عندما يجد سعة...والظاهر أن هذا الأجر هو المغفرة كما في قوله تعالى: {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم} في سورة التغابن (17). وهذا يشمل الإِنفاق في الصدقات قال تعالى: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم} [الحديد: 18]، وهو ما فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم « والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار» أي زيادة على مضاعفتها مثل الحسنات كلها.
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي: ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين: إلى الإخلاص في قوله، {من ذا الذي يقرض الله} يعني لا يرى سوى الله -عز وجل- والمتابعة في قوله: {حسناً}؛ لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل: أن يكون مخلصاً لله، وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.