مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجۡرٞ كَرِيمٞ} (11)

قال تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا أن رجلا من اليهود قال عند نزول هذه الآية ما استقرض إله محمد حتى افتقر ، فلطمه أبو بكر ، فشكا اليهودي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما أردت بذلك ؟ فقال : ما ملكت نفسي أن لطمته فنزل قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } قال المحققون : اليهودي إنما قال ذلك على سبيل الاستهزاء ، لا لأن العاقل يعتقد أن الإله يفتقر ، وكذا القول في قولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } .

المسألة الثانية : أنه تعالى أكد بهذه الآية ترغيب الناس في أن ينفقوا أموالهم في نصرة المسلمين وقتال الكافرين ومواساة فقراء المسلمين ، وسمي ذلك الإنفاق قرضا من حيث وعد به الجنة تشبيها بالقرض .

المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد من هذا الإنفاق ، فمنهم من قال : المراد الإنفاقات الواجبة ، ومنهم من قال : بل هو في التطوعات ، والأقرب دخول الكل فيه .

المسألة الرابعة : ذكروا في كون القرض حسنا وجوها ( أحدها ) : قال مقاتل : يعني طيبة بها نفسه ( وثانيها ) : قال الكلبي : يعني يتصدق بها لوجه الله ( وثالثها ) : قال بعض العلماء : القرض لا يكون حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة ( الأول ) : أن يكون من الحلال قال عليه الصلاة والسلام : « إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب » وقال عليه الصلاة والسلام : « لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول » ( والثاني ) : أن يكون من أكرم ما يملكه دون أن ينفق الرديء ، قال الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ، ( الثالث ) : أن تتصدق به وأنت تحبه وتحتاج إليه بأن ترجو الحياة وهو المراد بقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } وبقول : { ويطعمون الطعام على حبه } على أحد التأويلات وقال عليه الصلاة والسلام : « الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ، ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا » ( والرابع ) : أن تصرف صدقتك إلى الأحوج الأولى بأخذها ، ولذلك خص الله تعالى أقواما بأخذها وهم أهل السهمان ( الخامس ) : أن تكتم الصدقة ما أمكنك لأنه تعالى قال : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ، ( السادس ) : أن لا تتبعها منا ولا أذى ، قال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } ، ( السابع ) : أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي ، كما قال : { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى } ولأن المرائي مذموم بالاتفاق ( الثامن ) : أن تستحقر ما تعطي وإن كثر ، لأن ذلك قليل من الدنيا ، والدنيا كلها قليلة ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } في أحد التأويلات ( التاسع ) : أن يكون من أحب أموالك إليك ، قال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، ( العاشر ) : أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس في نظرك ، فترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله بقوله : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وترى نفسك تحت دين الفقير ، فهذه أوصاف عشرة إذا اجتمعت كانت الصدقة قرضا حسنا ، وهذه الآية مفسرة في سورة البقرة .

قوله تعالى : { فيضاعفه له وله أجر كريم } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : أنه تعالى ضمن على هذا القرض الحسن أمرين ( أحدهما ) : المضاعفة على ما ذكر في سورة البقرة ، وبين أن مع المضاعفة له أجر كريم ، وفيه قولان : ( الأول ) : وهو قول أصحابنا أن المضاعفة إشارة إلى أنه تعالى يضم إلى قدر الثواب مثله من التفضيل والأجر الكريم عبارة عن الثواب ، فإن قيل : مذهبكم أن الثواب أيضا تفضل فإذا لم يحصل الامتياز لم يتم هذا التفسير ( الجواب ) : أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ ، أن كل من صدر منه الفعل الفلاني ، فله قدر كذا من الثواب ، فذاك القدر هو الثواب ، فإذا ضم إليه مثله فذلك المثل هو الضعف ( والقول الثاني ) : هو قول الجبائي من المعتزلة أن الأعواض تضم إلى الثواب فذلك هو المضاعفة ، وإنما وصف الأجر بكونه كريما لأنه هو الذي جلب ذلك الضعف ، وبسببه حصلت تلك الزيادة ، فكان كريما من هذا الوجه .

المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر : فيضعفه مشددة بغير ألف ، ثم إن ابن كثير قرأ بضم الفاء وابن عامر بفتح الفاء ، وقرأ عاصم فيضاعفه بالألف وفتح الفاء ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي : فيضاعفه بالألف وضم الفاء ، قال أبو علي الفارسي : يضاعف ويضعف بمعنى إنما الشأن في تعليل قراءة الرفع والنصب ، أما الرفع فوجهه ظاهر لأنه معطوف على يقرض ، أو على الانقطاع من الأول ، كأنه قيل : فهو يضاعف ، وأما قراء النصب فوجهها أنه لما قال : { من ذا الذي يقرض } فكأنه قال : أيقرض الله أحد قرضا حسنا ، ويكون قوله : { فيضاعفه } جوابا عن الاستفهام فحينئذ ينصب .