اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥٓ أَجۡرٞ كَرِيمٞ} (11)

قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } . وقد تقدم في «البقرة » .

ندب إلى الإنفاق في سبيل الله .

وقال ابن عطية{[55269]} : هنا بالرَّفع على العطف ، أو القطع والاستئناف .

وقرأ عاصم{[55270]} : «فيُضَاعفه » بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام ، وفي ذلك قلقٌ .

قال أبو علي{[55271]} : لأن السؤال لم يقع على القرضِ ، وإنما وقع عن فاعل القَرْض ، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه ، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى ، كأن قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ } بمنزلة قوله : «أيقرض الله أحدٌ » . انتهى .

وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع{[55272]} ، ألا ترى أنه ينصب بعد «الفاء » في جواب الاستفهام بالأسماء ، وإن لم يتقدم فعل نحو : أين بيتك فأزورك ومثل ذلك : من يدعوني فأستجيب له ، ومتى تسير فأرافقك ، وكيف تكون فأصحبك ، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدَّاعي ، وعن ظرف الزَّمان ، وعن الحال لا عن الفعل .

وقد حكى ابن كيسان عن العرب : «أين ذهب زيدٌ فنتبعه ، ومن أبوك فنكرمه » .

فصل في المقصود بالقرض{[55273]}

ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله ، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً : «قد أقرض » .

كما قال بعضهم رحمة الله عليه : [ الرمل ]

وإذَا جُوزيتَ قَرْضاً فاجزه *** إنَّما يَجزي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ{[55274]}

وسماه قرضاً ؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل ، أي : من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة .

قال الكلبي : «قرضاً » أي : صدقة .

«حسناً » أي : محتسباً من قلبه بلا منٍّ ولا أدى{[55275]} .

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } : ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف .

وقيل القَرْض الحسن هو أن يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .

وقال زيد بن أسلم : هو النَّفقة على الأهل .

وقال الحسن : التطوُّع بالعبادات{[55276]} .

وقيل : عمل الخير .

وقال القشيري : لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة :

الأول : أن يكون من الحلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاةً بِغَيْرِ طهُورٍ ، ولا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ »{[55277]} .

الثاني : أن يكون من أكرم ما يمكنه ؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ } [ البقرة : 267 ] .

الثالث : أن يتصدق به وهو يحبّه ، ويحتاج إليه لقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] .

وقال عليه الصلاة والسلام «أفْضَلُ الصَّدقةِ أنْ تُعْطيَهُ وأنْتَ صَحيحٌ شَحِيحٌ تأمْلُ العَيْشَ ولا تمهلُ حتَّى إذا بلغتِ التَّراقي قُلْتَ : لفُلانٍ كذا ، ولفُلانٍ كَذَا »{[55278]} .

الرابع : أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج ، ولذلك خص تعالى أقواماً بأخذها ، وهم أهل المبهمات .

الخامس : أن تخفي الصَّدقة لقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] .

السادس : ألاَّ يتبعها منًّا ولا أذى ، لقوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمنّ والأذى } [ البقرة : 264 ] .

السابع : أن يقصد بها وجه الله تعالى ، ولا يُرائِي لقوله تعالى : { إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى } [ الليل : 20 ] .

الثامن : أن يستحقر ما يعطي وإن كثر ؛ لأن الدُّنيا كلها قليلة ، قال تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] في أحد التأويلات .

التاسع : أن يكون من أحبّ الأموال إليه ، وأن يكون كثيراً لقوله عليه الصلاة والسلام «أفْضَلُ الرِّقابِ أغْلاهَا وأنفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا »{[55279]} .

العاشر : ألا يرى عزَّ نفسه ، وذُلّ الفقير ، بل يكون الأمر بالعكس .

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني الجنَّة .


[55269]:ينظر: المحرر الوجيز 5/260.
[55270]:ينظر: الحجة 6/267، وإعراب القراءات 2/350، وحجة القراءات 699، والعنوان 74، وشرح شعلة 293، وإتحاف 2/520.
[55271]:الحجة للقراء السبعة 6/268.
[55272]:ينظر: الدر المصون 6/275.
[55273]:ينظر: القرطبي 17/157.
[55274]:قائل البيت هو لبيد بن ربيعة، ويروى "أقرضت" مكان "جوزيت" . ينظر ديوانه ص 179، والأزهية ص 182، 196، وخزانة الأدب 9/296، 297، 300، 11/190، 191، وشرح أبيات سيبويه 2/40، وشرح التصريح 2/135، والكتاب 2/323، ومجالس ثعلب ص 169، 515، والمقاصد النحوية 4/876، وأوضح المسالك 3/354، والمقتضب 4/410، ومعاني القرآن وإعرابه 5/123، والقرطبي 17/157.
[55275]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/157) عن الكلبي.
[55276]:ينظر: المصدر السابق.
[55277]:أخرجه مسلم 1/204، كتاب الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة (1/224)، والترمذي 1/5 أبواب الطهارة، باب: لا تقبل صلاة بغير طهور (1)، وابن ماجه 1/100، كتاب الطهارة، باب: لا يقبل صلاة بغير طهور (271) وأبو داود 1/16، كتاب الطهارة، باب: فرض الوضوء (59).
[55278]:متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[55279]:تقدم تخريجه.