ثم حكى القرآن جانباً من مظاهر نعم الله على خلقه فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي . . . . } .
مكناكم : من التمكين بمعنى التمليك ، أو معناه : جعلنا لكم فيها مكانا وقراراً وأقدرناكم على التصرف فيها ومعايش : جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وما تكون به الحياة .
والمعنى : ولقد جعلنا لكم - يا بنى آدم - مكانا وقرارا في الأرض ، وأقدرناكم على التصرف فيها ، وأنشأنا لكم أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تتعيشون بها عيشة راضية ، ولكن كثيراً منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران .
من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً .
( ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلاً ما تشكرون ) :
إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها . وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادراً على تطويعها واستخدامها ؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته . .
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن " يقهر الطبيعة " كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً ! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة !
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان ؛ وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته ؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذهالقوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية ، وكل تسخير لها " قهراً للطبيعة " في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني !
إنها تصورات سخيفة ، فوق أنها تصورات خبيثة !
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان ، عدوة له ، تتربص به ، وتعاكس اتجاهه ، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلاً ! وإلا فكيف كان ينشأ ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه ؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد ! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه ؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها ؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون ، وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان ، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة !
وفي ظل هذا التصور يعيش " الإنسان " في كون مأنوس صديق ؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة . . يعيش مطمئن القلب ، مستروح النفس ، ثابت الخطو ، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة ؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود ؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته ؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع .
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس ، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره ، ولا يمنع عنه مدده وعونه . . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله !
إن مأساة " الوجودية " الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني ، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني ! إنه تصور بائس لا بد أن ينشىء حالة من الانزواء والانكماش والعدمية ! أو ينشىء حالة من الاستهتار والتمرد والفردية ! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني ! والبؤس النفسي والعقلي ، والشرود في التيه : تيه التمرد ، أو تيه العدم . . وهما سواء . .
وهي ليست مأساة " الوجودية " وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها . المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة ، التي تنشىء في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود ، وما وراءه من قوة مدبرة .
إن " الإنسان " هو ابن هذه الأرض ؛ وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ، ومكنه فيها ، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش ، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها ؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان ، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . . ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكونأن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء ؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :
الخطاب لجميع الناس ، والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض ، و «المعايش » جمع معيشة وهي لفظة تعم المأكول الذي يعاش به والتحرف الذي يؤدي إليه . وقرأ الجمهور «معايِش » بكسر الياء دون همز ، وقرأ الأعرج وغيره «معائش » بالهمز كمدائن وسفائن ، ورواه خارجة عن نافع ، وروي عن ورش «معايْش » بإسكان الياء ، فمن قرأ «معايش » بتصحيح الياء فهو الأصوب لأنها جمع معيشة وزنها مفعلة ، ويحتمل أن تكون مفعُلة بضم العين قالهما سيبويه ، وقال الفراء مفعلة بفتح العين فالياء في معيشة أصلية وأعلت معيشة لموافقتها الفعل الذي هو يعيش في الياء أي في المتحرك والساكن ، وصححت «معايِش » في جمع التكسير لزوال الموافقة المذكورة في اللفظ ولأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما تختص به الأسماء ، ومن قرأ «معايْش » فعلى التخفيف من «معايِش » ، وقرأ «معائِش » فأعلها فذلك غلط ، وأما توجيهه فعلى تشبيه الأصل بالزائد لأن معيشة تشبه في اللفظ صحيفة فكما يقال صحائف قيل «معائِش » ، وإنما همزت ياء صحائف ونظائرها مما الياء فيه زائدة لأنها لا أصل لها في الحركة وإنما وزنها فعيلة ساكنة ، فلما اضطر إلى تحريكها في الجمع بدلت بأجلد منها .
و { قليلاً } نصب ب { تشكرون } ، ويحتمل أن تكون { ما } زائدة ، ويحتمل أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر ، { قليلاً } نعت لمصدر محذوف تقديره شكراً قليلاً شكركم ، أو شكراً قليلاً تشكرون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.