ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة بدون حياء أو تدبر للعواقب فقال : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فالقاء في قوله { فَإِمَّا } لترتيب ما عدها على ما قبلها .
وقوله : { تَثْقَفَنَّهُمْ } من الثقف بمعنى الحذق في إدراك الشئ وفعله .
قال الراغب : يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ، ثم يتجوز فيه فيستعمل في الإِدراك وإن لم تكن معه ثقافته .
قال - تعالى - { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } .
وقوله : { فَشَرِّدْ بِهِم } التشريد وهو عبارة عن التفريق مع الاضطراب ، يقال شردت بنى فلان ، أى : قلعتهم عن مواطنهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر :
أطوف في الأباطح كل يوم . . . مخافة أن يشرد بى حكيم
أى : مخافة أن يسمع بى ويطردنى حكيم ، وحكيم رجل من بنى سليم كانت قريش قد ولته الأخذ على أيدى السفهاء .
والمعنى : إنك يا محمد إذا ما أدركت في الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم وظفرت بهم - وهم بنو قريظة ومن لف لفهم - . . فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يتفرق معه جمع كل ناقض للعهد ، ويفزع منه كل من كان على شاكلتهم في الكفر ونقض العهود ، ويعتبر به كل من سمعه من أهل مكة وغيرهم .
فالباء في قوله { فَشَرِّدْ بِهِم } للسبية ، وقوله { مَّنْ خَلْفَهُمْ } مفعول شرد .
والمراد بمن خلقهم : كفار مكة وغيرهم من الضالين ، أى : افعل ببنى قريظة ما يشرط غيرهم خوفا وفزعا .
وقوله { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أى : لعل أولئك المشردين يتعظون بهذا القتل والتنكيل الذي نزل بهؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة ، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد .
هذا ، وإن تلك الآية الكريمة لمن أحكم الآيات التي ترشد المؤمنين إلى وجوب أخذ المستمرين على كفرهم وعنادهم ونقضهم العهود أخذاً شديداً رادعا . . حتى يبقى للمجتمع الإِسلامى أمانه واستقراره وهيبته أمام أعدائه .
إن الآية الكريمة ترسم صورة بديعة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفى السماع به للهرب والشرود ، فما بال من يحل به هذا الأخذ الشديد ؟
إن الضربة المروعة ، بأمر الله - تعالى - رسوله أن ينزلها على رأس كل مستحق لها بسبب كفره وتلاعبه بالعهود . . وبذلك تبقى لدين الله هيبته وسطوته .
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ؛ وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم ، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم ، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم ، والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين ، مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع :
( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) . .
وإنه لتعبير عجيب ، يرسم صورة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد ، وانطلقوا من ضوابط الإنسان ، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً ، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ؛ وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة ، ولا بد له من قوة ، ولا بد له من سطوة ، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت ، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ؛ وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
{ فإما تثقفنّهم } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ، { في الحرب فشرّد بهم } ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم { من خلفهم } من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب . وقرئ " فشرذ " بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و{ من خلفهم } ، والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء ، { لعلهم يذّكّرون } لعل المشردين يتعظون .
وفي « شرح الرضي على الحاجبية » ، عن بعض النحاة : لا يجيء ( إمّا ) إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى : { فإما ترين } [ مريم : 26 ] . وقال ابن عطية في قوله : { فإما تثقفنهم } دخلت النون مع إما : إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك : جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو .
وقلت : دخول نون التوكيد بعد ( إنْ ) المؤكَّدةِ بما ، غالب ، وليس بمطّرد ، فقد قال الأعشى :
إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا *** إنَّا كذلكِ ما تَحفى وننتعل
فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد .
والثقف : الظفَر بالمطلوب ، أي : فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب ، أي انتصرت عليهم .
والتشريدُ : التطريد والتفريق ، أي : فبعِّد بهم مَن خلفهم ، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير .
وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال ، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] . وقد علم أنّ متعلّق تشريد { من خَلفهم } هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد .
والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع ، ونظيره ( الوراء ) . في قول ضمّام بن ثعلبة : « وأنا رسول من ورائي » . وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم « فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا » ، والمعنى : فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم ، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية ، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل .
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه ، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين ، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم ، لأنّهم استحقّوها . وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين . فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين ، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .
وضمير الغيبة في { لعلهم يذكرون } راجع إلى { من } الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس .
والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد ، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال ، ، فلا يقدموا على نقض العهد ، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار ، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه .