وبعد هذا التقسيم للأعراب ، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأطاعوه في السر والعلن ، فقال تعالى : { والسابقون الأولون . . . } .
فهذه الآية الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوى .
الطائفة الأولى { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين } وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة ، وهاجروا إلى الحبشة ، ثم الى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا .
وقيل المراد بهم : الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا غزوة بدر .
والطائفة الثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يهاجر اليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى والثانية .
وكانت بيعة العقبة الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد .
أما بيعة العقبة الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعين رجلا وامرأتين .
ثم يلي هؤلاء أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإِسلام على يد مصعب بن عمير ، قبل وصول الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليها .
ثم يلى هؤلاء جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - بعد مقدمه إلى المدينة .
والطائفة الثالثة : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } أى : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار ، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق .
قال الآلوسى ما ملخصه : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين : جميع المهاجرين والأنصار . ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين .
روى عن حميد بن زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظى ، ألا تخبرنى عن الصحابة فيما كان بينهم من الفتن ؟ فقال لي : إن الله - تعالى - قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، فقلت له : وفى أي موضع أوجب لهم الجنة ، فقال : سبحانه ! ! ألم تقرأ قوله . تعالى - : { والسابقون الأولون . . . } الآية فقد أوجب . سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على تبايعهم أن يقتدروا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءاً .
وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } بيان لسمو منزلتهم ، وارتفاع مكانتهم .
أى : رضي الله عنهم في إيمانهم وإخلاصهم ، فتقبل أعمالهم ، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم ، ورضوا عنه ، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة ، وبما ناله منه سبحانه من هداية وثواب .
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم } .
أى : أنه - سبحانه - بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا ، قد أعد لهم - سبحانه - في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا تدانيه سعادة .
قال الإِمام ابن كثير : أخبر الله - تعالى - في هذه الآية " أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . فياويل من أبغضهم ، أو سبهم ، أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ، ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الايمان بالقرآن إذ يسبون من رضى الله عنهم ؟
وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالى الله ، ويعادون من يعادى الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون ، وعباده المؤمنون .
وبهذا نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ، وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها . .
وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله . . حاضره وباديه . . إلى أربع طبقات إيمانية : السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب . والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً . والذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي اللّه فيهم بقضائه :
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم )
( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم . )
وآخرون اعترفوا بذنوبهم . خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم .
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، واللّه سميع عليم .
ألم يعلموا أن اللّه يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ، وان اللّه هو التواب الرحيم ?
وقل : اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
( وآخرون مُرجون لأمر اللّه ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، واللّه عليم حكيم ) .
والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك ؛ وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين ؛ ومن المؤمنين المتخلفين كذلك . سواء منهم من اعتذر صادقا ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول اللّه - [ ص ] - ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل اللّه توبته بصدقه ، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب اللّه عليهم وقبل توبتهم - كما سيجيء - وكان مجموع هؤلاء يمثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك . وكان اللّه - سبحانه - يكشف أرض الحركة كلها وما عليها ومن عليها لرسوله - [ ص ] - ومن معه من المؤمنين الخلص ، هذا الكشف النهائي الكامل قرب نهاية المطاف في الجولة الأولى لهذا الدين ، في موطنه الأول ، قبل أن ينطلق إلى الأرض كلها بإعلانه العام بالعبودية للّه وحده والدينونة له وحده ، وتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد في شتى الصور والأشكال .
ولا بد للحركة الإسلامية حين تنطلق أن تتكشف لها أرض المعركة ، وما عليها ومن عليها ، فهذا التكشف ضروري لكل خطوة ؛ حتى يعرف أصحاب الحركة مواضع أقدامهم في كل خطوة في الطريق .
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم ) . .
وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث : ( السابقون الأولون من المهاجرين . والأنصار . والذين اتبعوهم بإحسان )- كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح - كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة ، وفي كل رخاء كذلك : فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة !
والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر ، وكذلك السابقون منالأنصار . أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك ، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر ، وهي أشد الفترات طبعاً .
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل : هم الذين صلوا للقبلتين . وقيل : هم أهل بدر . وقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية . وقيل : هم أهل بيعة الرضوان . . . ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح . . واللّه أعلم . .
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء ، خيراً من إحالته إلى الجزء السابق ؛ لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا :
" لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة ، فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة : " أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمداً رسول اللّه " وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - [ ص ] - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .
" لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة . . وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة ؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .
" لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين ، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركه قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض . .
" وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه للّه ؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب ، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان .
" بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي ؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ؛ وكان هذا النوع قليلاً ؛ فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب ؛ إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .
" وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ، الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - [ ص ] - [ بيعة العقبة ] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . . قال ابن كثير في التفسير : " وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه - [ ص ] - [ يعني ليلة العقبة ] : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل " .
" ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ؛ ويوثقون هذا البيع ، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله [ ص ] ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم ؛ وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة ، وبين ظهرانيهم في المدينة " . .
. . . " فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة ؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .
" ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم . . حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء : عبد اللّه بن أبي بن سلول : هذا أمر قد توجه ! وأظهر الإسلام نفاقا . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ، ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية . "
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول اللّه - [ ص ] - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .
" وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ؛ ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة .
" ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .
. . . " إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ وما تحدثه من تماسك وصلابه في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .
" وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة ، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .
" نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها . . تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة ، وتنص عليها . . . " .
. . . " ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية ، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق . . . من ذلك المجتمع . بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .
" إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون ؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ؛ وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية . . . " .
ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك( بإحسان )يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي . وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقي مؤثراً في التاريخ البشري كله ، كما نستشرف حقيقة قول اللّه سبحانه فيهم :
( رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ) . .
ورضى اللّه عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة ، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ؛ ورضاهم عن اللّه هو الاطمئنان إليه سبحانه ، والثقة بقدره ، وحسن الظن بقضائه ، والشكر على نعمائه ، والصبر على ابتلائه . . ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر ، المتبادل الوافر ، الوارد الصادر ، بين اللّه سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ؛ ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى ؛ وهو ربهم الأعلى ، وهم عبيده المخلوقون . . وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أنتعبر عنه ؛ ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول !
ذلك حالهم الدائم مع ربهم : ( رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ) . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى :
( وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ) . . ( ذلك الفوز العظيم ) . .
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم ، والنعيم المقيم .
قال الشعبي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية .
وقال أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة : هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال محمد بن كعب القرظي : مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : أبيُّ بن كعب . فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه . فلما جاءه قال عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم . قال : وسمعتَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبيُّ : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الجمعة : 3 ] وفي سورة الحشر : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } [ الحشر : 10 ] وفي الأنفال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } [ الأنفال : 75 ] إلى آخر الآية ، رواه ابن جرير{[13798]} قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع " الأنصار " عطفا على { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ }
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم ، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة ، رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم ، عياذًا بالله من ذلك . وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن ، إذ يسبُّون من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون .
عُقِّب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذِي مُتطلب الصلاح حذوَهم ، ولئلا يخلوَ تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحَواليها وبَواديها ، عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به . وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها .
فالجملة عطف على جملة : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } [ التوبة : 98 ] .
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان ، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين ، والكفار الصرحاء ، والكفار المنافقين ؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم ، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجِر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان ، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية .
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معاً ، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة : من صلى القبلتين . وقال عطاء : من شهد بدراً . وقال الشعبي : من أدركوا بيعة الرضوان . وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله : { والأنصار } للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين ، وهذا يخص المهاجرين . وفي « أحكام ابن العربي » ما يشبه أنَّ رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين ، وذلك يخص الأنصار . وعن الجبائي : أن السابقين مَن أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل .
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة ، أي بفتح مكة ، وهذا يَقصر وصفَ السبق على المهاجرين . ولا يلاقي قراءة الجمهور بخفض { الأنصار } . و { من } للتبعيض لا للبيان .
والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر . والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوْس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان . دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف ، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد .
وقرأ الجمهور { والأنصار } بالخفض عطفاً على المهاجرين ، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار . وقرأ يعقوب { والأنصارُ } بالرفع ، فيكون عطفاً على وصف { السابقون } ويكون المقسَّم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين .
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم في الإيمان ، أي آمنوا بعد السابقين : ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة .
والإحسان : هو العمل الصالح . والباء للملابسة . وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص ، فهم محسنون ، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة ، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد ، مثل المؤلفة قلوبهم ، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل ، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 60 ] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات .
وجملة : { رضي الله عنهم } خبر عن { السابقون } . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد . ورضَى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءَهم ، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم .
والإعداد : التهيئة . وفيه إشعار بالعناية والكرامة . وتقدم القول في معنى جري الأنهار .
وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ( مِنْ ) مع ( تَحتِها ) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف ( من ) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل ( أعد ) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه .
وثبتت ( مِن ) في مصحف مَكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين .