وقوله - تعالى - { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } مقرر لمضمون ما قبله ، من إعراضهم عن آيات الله . ونكوصهم على أعقابهم عند سماعها .
والضمير فى { بِهِ } يرى جمهور المفسرين أنه يعود إلى البيت الحرام ، والباء للسببية .
وقوله : " سامرا " اسم جمع كحاج وحاضر وراكب ، مأخوذ من السمر وأصله ظل القمر وسمى بذلك لسمرته ، ثم أطلق على الحديث بالليل . يقال : سمر فلان يسمر - ككرم يكرم - إذا تحدث ليلاً مع غيره بقصد المسامرة والتسلية .
وقوله : { تَهْجُرُونَ } قرأه الجمهور - بفتح التاء وضم الجيم - مأخوذ من الهجر - بإسكان الجيم - بمعنى الصد والقطيعة ، أو من الهجر - بفتح الجيم - بمعنى الهذيان والنطق بالكلام الساقط ، بسبب المرض أو الجنون .
وقرأ نافع { تُهْجِرُونَ } بضم التاء وكسر الجيم - مأخوذ من هجر هجاراً إذا نطق بالكلام القبيح .
والمعنى : قد كانت آياتى تتلى عليكم - أيها المستغيثون من العذاب - فكنتم تعرضون عنها ، ولم تكتفوا بهذا الإعراض ، بل كنتم متكبرين على المسلمين بالبيت الحرام ، وكنتم تتسامرون بالليل حوله ، فتستهزئون بالقرآن ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبتعاليم الإسلام وتنطقون خلال سمركم بالقول الباطل ، الذى يدل على مرض قلوبكم ، وفساد عقولكم ، وسوء أدبكم .
وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ } و { سَامِراً } و { تَهْجُرُونَ } أحوال ثلاثة مترادفة على واو الفاعل فى { تَنكِصُونَ } أو متداخلة ، بمعنى أن كل كلمة منها حال مما قبلها .
قال القرطبى : { مُسْتَكْبِرِينَ } حال ، والضمير فى { بِهِ } قال الجمهور : هو عائد على الحرم ، أو المسجد ، أو البلد الذى هو مكة . وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته فى الأمر .
أى : يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف . وقيل : المعنى أنهم يعتقدون فى نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل فيستكبرون لذلك .
وقالت فرقة : الضمير عائد على القرآن ، من حيث ذكرت الآيات .
والمعنى : يحدث لكم سماع آياتى كبرا وطغياناً فلا تؤمنوا بى . . . " .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور حسرة المشركين وجؤارهم يوم ينزل بهم العذاب تصويراً بديعاً ، كما تين ما كانوا عليه من غرور وسوء أدب ، مما جعلهم أهلاً لهذا المصير الأليم .
ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم ؛ وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة . فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه ؛ وهم يجأرون طالبين الغوث ، فيذكرهم بسمرهم الفاحش ، وهجرهم القبيح . وكأنما هو واقع اللحظة ، وهم يشهدونه ويعيشون فيه ! وذلك على طريقة القرآن الكريم في رسم مشاهد القيامة كانها واقع مشهود .
والمشركون في تهجمهم على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعلى القرآن في نواديهم وفي سمرهم يمثلون الكبرياء الجاهلة ، التي لا تدرك قيمة الحق لأنها مطموسة البصيرة عمياء ، فتتخذ منه مادة للسخرية والهزء والاتهام . ومثل هؤلاء في كل زمان . وليست جاهلية العرب إلا نموذجا لجاهليات كثيرة خلت في الزمان ؛ وما تزال تظهر الآن بعد الآن !
وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } : في تفسيره قولان ، أحدهما : أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه ، استكبارًا عليه واحتقارًا له ولأهله ، فعلى هذا الضمير في { بِهِ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما{[20590]} : أنه الحرم بمكة ، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر{[20591]} من الكلام .
والثاني : أنه{[20592]} ضمير القرآن ، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : " إنه سحر ، إنه شعر ، إنه كهانة " إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة .
والثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ، ويضربون له الأمثال الباطلة ، من أنه شاعر ، أو كاهن ، أو ساحر ، أو كذاب ، أو مجنون . وكل ذلك باطل ، بل هو عبد الله ورسوله ، الذي أظهره الله عليهم ، وأخرجهم من{[20593]} الحرم صاغرين أذلاء .
وقيل : المراد بقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي : بالبيت ، يفتخرون به ويعتقدون أنهم{[20594]} أولياؤه ، وليسوا{[20595]} بهم ، كما قال النسائي في التفسير{[20596]} من سننه :
أخبرنا أحمد بن سليمان ، أخبرنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } ، فقال : مستكبرين بالبيت ، يقولون : نحن أهله ، { سَامِرًا } قال : يتكبرون [ ويسمرون فيه ، ولا ]{[20597]} يعمرونه ، ويهجرونه{[20598]} .
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا{[20599]} حاصله .
و { مستكبرين } حال ، والضمير في { به } قال الجمهور : هو عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر ، والمعنى أنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله فأنتم تستكبرون لذلك وليس الاستكبار من الحق ، وقالت فرقة : الضمير " في [ به ] " {[8516]} عائد على القرآن من حيث ذكر الآيات والمعنى يحدث لكم سماع آياتي كبراً وطغياناً .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول جيد وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو متعلق بما بعده كأن الكلام ثم في قوله { مستكبرين } ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ، { سامراً تهجرون } ، وقوله { سامراً } حال وهو مفرد بمعنى الجمع{[8517]} يقال قوم سمر وسمر وسامر ومعناه سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص{[8518]} من ضوء القمر فكانت العرب تجلس للسمر تتحدث{[8519]} وهذا أوجب معرفتها بالنجوم لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب ، وقرأ الجمهور «سامراً » وقرأ أبو رجاء «سماراً » ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن محيصن «سمراً »{[8520]} ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الكامل ]
من دونهم إن جئتهم سمراً . . . عزف القيان ومجلس غمر{[8521]}
فكانت قريش سمر حول الكعبة مجالس في أباطيلها وكفرها ، وقرأ الجمهور «تَهجُرون » بفتح التاء وضم الجيم واختلف المتأولون في معناها فقال ابن عباس : معناها تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر المعروف ، وقال ابن زيد : من هجر المريض إذا هذى أي تقولون اللغو من القول وقاله أبو حاتم ، وقرأ نافع وحده من السبعة «تهجِرون » بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة وابن محيصن وابن عباس أيضاً ومعناه يقولون الفحش والهجر والعضاية من القول وهذه إشارة إلى سبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاله ابن عباس أيضاً وغيره ، وفي الحديث «كنت نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً »{[8522]} ، وقرأ ابن محيصن وابن أبي نهيك «تُهَجِّرون » بضم التاء وفتح الهاء وشد الجيم مكسورة وهو تضعيف هجر وتكثير الهجر والهجر على المعنيين المتقدمين ، وقال ابن جني : لو قيل إن المعنى أنكم تبالغون في المهاجرة حتى أنكم وإن كنتم سمراً بالليل فكأنكم تهجرون في الهاجرة على غاية الافتضاح لكان وجهاً{[8523]} .
قال القاضي أبو محمد : ولا تكون هذه القراءة تكثير «تُهجِّرون » بضم التاء ، وكسر الجيم لأن أفعل لا يتعدى ولا يكثر بتضعيف إذ التضعيف والهمزة متعاقبان .
ضمير { به } يجوز أن يكون عائداً على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون { مستكبرين } بمعنى معرضين استكباراً ويكون الباء بمعنى ( عن ) ، أو ضمّن { مستكبرين } معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه .
ويجوز أيضاً أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويُعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكرت تلاوة الآيات عليهم . وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم . فتكون الباء للظرفية . وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم . وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهراً للتواضع ومكارم الأخلاق ، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتاً لله حنيفاً أشنعُ استكبار .
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله { به } للنبيء صلى الله عليه وسلم والباء حينئذٍ للتعدية ، وتضمين { مستكبرين } معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب .
{ وسامراً } حال ثانية من ضمير المخاطبين ، أي حال كونكم سامرين . والسامر : اسم لجمع السامرين ، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته ، أو ضوء قمره .
وأطلق السمر على الكلام في الليل ، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال . وعندي أنه يجوز أن يكون { سامراً } مراداً منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلاً ويكون نصبه على نزع الخافض ، أي في سامركم ، كما قال تعالى : { وتأتون في ناديكم المنكر } [ العنكبوت : 29 ] .
{ وتُهجِرون } بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر : إذا قال الهُجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء . وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا . والجملة في موضع الصفة ل { سامراً } ، أي في حال كونكم متحدثين هجراً وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم