وقوله - سبحانه - : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة . أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } حكاية لما كان يقوله هؤلاء الكافرون فى الدنيا ، من إنكار للبعث ، ومن استهزاء لمن كان يذكرهم به ، ومن استبعاد شديد لحصوله . .
والمراد بالحافرة : العودة إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم وتحولهم إلى عظام بالية .
قال صاحب الكشاف : { فِي الحافرة } أى : فى الحالة الأولى يعنون : الحياة بعد الموت .
فإن قلت : ما حقيقة هذه الكلمة ؟ قلت : يقال : رجع فلان فى حافرته ، أى : فى طريقه التى جاء فيها فحفرها . أى : أثر فيها بمشيه فيها : جعل أثر قدميه حفرا . . ثم قيل لمن كان فى أمر فخرج منه ثم عاد إليه ، رجع إلى حافرته ، أى : طريقته وحالته الأولى .
وقوله : { نَّخِرَةً } صفة مشتقة من قولهم : نَخِر العظم - بفتح النون وكسر الخاء - إذا بَلِى وصار سهل التفتيت والكسر . وقرأ حمزة والكسائى " ناخرة " بمعنى بالية فارغة جوفاء ، يسمع منها عند هبوب الريح نخير ، أى : صوت .
أى : أن هؤلاء المشركين كانوا يقولون فى الدنيا - على سبيل التعجيب والاستهزاء والإِنكار لأمر البعث والحساب : أنرد إلى الحياة مرة أخرى بعد موتنا وبعد أن نصير فى قبورنا عظاما بالية . وعبر - سبحانه - عن قولهم هذا بالمضارع " يقولون " لاستحضار حالتهم الغريبة ، حيث أنكروا ما قام الدليل على عدم إنكاره ، وللإِشعار بأن هذا الإِنكار كان متجددا ومستمرا منهم .
وقد ساق - سبحانه - أقوالهم هذه بأسلوب الاستفهام ، للإِيذان بأنهم كانوا يقولون ما يقولون فى شأن البعث على سبيل التهكم والتعجب ممن يحدثهم عنه ، كما هو شأن المستفهم عن شئ الذى لا يقصد معرفة الحقيقة ، وإنما يقصد التعجيب والإِنكار .
وجملة { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } مؤكدة للجملة السابقة عليها ، التى يستبعدون فيها أمر البعث بأقوى أسلوب .
ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول :
يقولون : أإنا لمردودون في الحافرة ? أإذا كنا عظاما نخرة ? . .
فهم يتساءلون : أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى . . يقال : رجع في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها . فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون : إن كانوا راجعين في طريقهم إلى حياتهم ?
وقوله تعالى : { يقولون } هي حكاية حالهم في الدنيا معناه : هم الذين يقولون وقولهم { أئنا } هو على جهة الاستخفاف والعجب والتكذيب ، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن يعمر : «أإنا » بهمزتين ومدة على الاستفهام ، وقرأ جمهور القراء : «أئنا » باستفهام وهمزة واحدة ، و { الحافرة } لفظة توقعها العرب على أول أمر رجع إليه من آخره ، يقال : عاد فلان في الحافرة ، إذا ارتكس في حال من الأحوال ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
أحافرة على صلع وشيب*** معاذ الله من سفه وعار{[11604]}
والمعنى : { أئنا لمردودون } إلى الحياة بعد مفارقتها بالموت ، وقال مجاهد والخليل : { الحافرة } الأرض فاعلة بمعنى محفورة ، وقيل بل هو على النسب أي ذات حفر ، والمراد : القبور لأنها حفرت للموتى ، فالمعنى { أئنا لمردودون } أحياء في قبورنا ، وقال زيد بن أسلم : { الحافرة } في النار ، وقرأ أبو حيوة «في الحفرة » بغير ألف ، فقيل : هو بمعنى { الحافرة } ، وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها من قولهم حفرت أسنانه إذا تأكلت وتغير ريحها .
استئناف إمَّا ابتدائيّ بعد جملة القَسَم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة .
وإما استئناف بياني لأن القَسَم وما بعده من الوعيد يثير سؤالاً في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب { يقولون أئنا لمرددون في الحافرة } ، أي منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأنَ المتحدِّث عن غير حاضر .
وضمير { يقولون } عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شُهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث .
والمُساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم .
ويجوز أن يكون الكلام مسوقاً إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف .
وحُكي مقالهم بصيغة المضارع لإِفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه .
وللإِشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .
وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى .
وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير { يقولون } بعائد إلى { قلوب } من قوله تعالى : { قلوب يومئذ واجفة } [ النازعات : 8 ] .
وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهاراً لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه . والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة .
وجُعل الاستفهام التعجيبي داخلاً على جملة اسمية مؤكدة ب ( إنَّ ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإِفادة أنهم أتوا بما يُفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلاً عن تحقيقه والإِيقان به .
والمَردُود : الشيء المرجَّع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورَدِّ ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقابل ، أي لَمُرْجَعون إلى الحياة ، أي إنا لمبعوثون من قبورنا .
والمراد ب { الحافرة } : الحالة القديمة ، يعني الحياة .
وإطلاقات { الحافرة } كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في « الكشاف » : يقال رجَع فلان إلى حافرته ، أي في طريقه التي جاء فيها فحَفَرها ، أي أثّر فيها بمشْيه فيها جعل أثر قدميه حفراً أي لأن قدميه جعلتا فيها أثراً مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجُوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي راض عائشُها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلاً لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رَجَعَ في الحافرة ، ورُدّ إلى الحافرة ، جارياً مجرى المثل .
ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطّان حسبما ظن ابن السيِّد البطليوسي في شرح « أدب الكتاب » :
أحافرةً على صَلَع وشَيْب *** مَعَاذ اللَّهِ مِن سَفَهٍ وعار
ومن الأمثال قولهم : « النقد عند الحافرة » ، أي إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرّهان . يريد : أرجوعا إلى الحافرة .