اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

قوله : { يَقُولُونَ } أي : يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم : إنكم تُبْعَثُون ، قالوا منكرين متعجبين : أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياء ، كما كنا قبل الموت ؟ وهو كقولهم : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] .

قوله : { فِي الحافرة } «الحافرة » : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء ، يقال : رجع في حافرته ، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله ؛ قال : [ الوافر ]

5089- أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ ؟ *** مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ{[59242]}

يقول : أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت ؟ .

وأصله : أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً .

وقال الراغبُ ، في قوله تعالى : { فِي الحافرة } مثل لمن يرد من حيث جاء ، أي : أنَحْيَا بعد أن نموت ؟ .

وقيل : «الحَافرة » ، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها ، ومعناه : أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة ؟ أي : في القبور .

وقوله : «في الحافرة » على هذا في موضع الحال ، ويقال : رجع الشيخ إلى حافرته ، أي : هرم لقوله تعالى : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } [ النحل : 70 ] .

وقولهم : «النقد عند الحافرة » لما يباع نقداً ، وأصله من{[59243]} الفرس إذا بيع ، فيقال : لا يزول حافره ، أو ينقد ثمنه .

والحفر : تآكل الأسنان ، ود حفر فوه حفراً ، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع .

والحافرة : «فاعلة » بمعنى : «مفعولة » ، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى : «المحفورة » ، كقوله تعالى : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] ، و{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ القارعة : 7 ] ، والمعنى : أئِنَّا لمردودون في قبورنا .

وقيل : على النسب ، أي : ذاتُ حفر .

وقيل : سُمِّيت الأرض الحافرة ؛ لأنها مستقر الحوافر ، كما سمِّيت القدم أرضاً ؛ لأنها على الأرض ، لقولهم : الحافرة جمع حافرة بمعنى : القدم أي : نمشي أحياء على أقدامنا ، ونطأ بها الأرض .

وقيل : هي أول الأمر .

ويقول التجار : «النقد في الحافرة » أي في أول السّوم ؛ وقال الشاعر : [ السريع ]

5090- آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا *** حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ{[59244]}

وقال ابن زيدٍ : الحافرة «النَّار » ، وقرأ : «تلك إذا كرَّه خاسرة »{[59245]} .

وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم : هي اسم من أسماء النار{[59246]} .

وقال ابنُ عبَّاسٍ : الحافرة في كلام العرب : الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها{[59247]} ، من قولهم : حفرت أسنانه ، أي : تآكلت ، أي : دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها ، ويجوز تعلقه ب «مردودون » ، أو : بمحذوف على أنه حال .

فصل في تفسير الآية

قال ابن الخطيب{[59248]} : هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين .

وقال أبو مسلم : هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة ؛ لأنه فسَّر «النَّازعات » بنزعِ القوسِ ، و " الناشطات " بخروج السهم ، و " السابحات " بعدو الفرس ، و " السابقات " بسبقها ، و«المُدبِّرات » بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي ، والعدو ، ثم بنى على ذلك فقال : «الرَّاجفَة » هي خيلُ المشركين ، وكذلك «الرَّادفة » ، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقت إحداهما الأخرى ، والقلوب الواجفة ، هي القلقةُ ، والأبصار الخاشعة ، هي أبصار المنافقين ، كقوله تعالى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] ، كأنَّه قيل : لمَّا جاء خيل العدو ترجف ؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً ، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا : «أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ » أي : نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها . وقالوا أيضاً : «تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ » ، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، وأوسطه حكاية لحال المنافقين ، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة } .

قال ابن الخطيب{[59249]} : وكلام أبي مسلم محتملٌ ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور .


[59242]:ينظر سمط اللآلىء 1/122، وإصلاح المنطق ص 327، والكشاف 4/694، والطبري 30/22، واللسان (حضر)، والقرطبي 19/128، والبحر 8/410، ومجمع البيان 10/651، والدر المصون 6/471.
[59243]:في ب: في.
[59244]:ينظر القرطبي 19/128، والبحر 8/413، والدر المصون 6/472، وفتح القدير 5/374.
[59245]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/427-428)، عن ابن زيد.
[59246]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/128).
[59247]:ينظر المصدر السابق.
[59248]:ينظر الفخر الرازي 21/32.
[59249]:الفخر الرازي 31/33.