التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرۡدُودُونَ فِي ٱلۡحَافِرَةِ} (10)

استئناف إمَّا ابتدائيّ بعد جملة القَسَم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة .

وإما استئناف بياني لأن القَسَم وما بعده من الوعيد يثير سؤالاً في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب { يقولون أئنا لمرددون في الحافرة } ، أي منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأنَ المتحدِّث عن غير حاضر .

وضمير { يقولون } عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شُهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث .

والمُساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم .

ويجوز أن يكون الكلام مسوقاً إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف .

وحُكي مقالهم بصيغة المضارع لإِفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه .

وللإِشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .

وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى .

وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير { يقولون } بعائد إلى { قلوب } من قوله تعالى : { قلوب يومئذ واجفة } [ النازعات : 8 ] .

وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهاراً لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه . والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة .

وجُعل الاستفهام التعجيبي داخلاً على جملة اسمية مؤكدة ب ( إنَّ ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإِفادة أنهم أتوا بما يُفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلاً عن تحقيقه والإِيقان به .

والمَردُود : الشيء المرجَّع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورَدِّ ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقابل ، أي لَمُرْجَعون إلى الحياة ، أي إنا لمبعوثون من قبورنا .

والمراد ب { الحافرة } : الحالة القديمة ، يعني الحياة .

وإطلاقات { الحافرة } كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في « الكشاف » : يقال رجَع فلان إلى حافرته ، أي في طريقه التي جاء فيها فحَفَرها ، أي أثّر فيها بمشْيه فيها جعل أثر قدميه حفراً أي لأن قدميه جعلتا فيها أثراً مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجُوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي راض عائشُها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلاً لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رَجَعَ في الحافرة ، ورُدّ إلى الحافرة ، جارياً مجرى المثل .

ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطّان حسبما ظن ابن السيِّد البطليوسي في شرح « أدب الكتاب » :

أحافرةً على صَلَع وشَيْب *** مَعَاذ اللَّهِ مِن سَفَهٍ وعار

ومن الأمثال قولهم : « النقد عند الحافرة » ، أي إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرّهان . يريد : أرجوعا إلى الحافرة .