خلق السماوات والأرض متصفا دائماً بالحق والصواب على ناموس ثابت ، يلف الليل على النهار ويلف النهار على الليل على صورة الكرة ، وذلل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده ، كل منهما يسير في فلكه إلى وقت محدد عنده ، وهو يوم القيامة ، ألا هو - دون غيره - الغالب على كل شيء ، فلا يخرج شيء عن إرادته ، الذي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده .
أقام - سبحانه - المزيد من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، عن طريق التأمل فى ملكوت السموات والأرض ، وفى ظاهرة الليل والنهار ، وفى تسخير الشمس والقمر ، وفى خلق بنى آدم من نفس واحدة . . . فقال - تعالى - : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق . . . } .
قوله - تعالى - : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } تفصيل لبعض أفعاله الدالة على وحدانيته - سبحانه - وقدرته .
أى : الله وحده هو الذى أوجد هذه السموات وتلك الأرض ، إيجادا ملتبساً بالحق والحكمة والمصلحة التى تعود عليكم - أيها الناس - بالخير والمنفعة ومن كان شأنه كذلك ، استحال أن يكون له شريك أو ولد .
ثم ساق - سبحانه - دليلا ثانيا على وحدانيته فقال : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } .
والتكوير فى اللغة : طرح الشئ بعضه على بعض . يقال : كور فلان المتاع ، إذا ألقى بعضه على بعض ، ومنه كور العمامة . أى : انضمام بعض أجزائها على بعض .
والمقصود أن الليل والنهار كلاهما يكُر على الآخر فيذهبه ويحل محله ، بطريقة متناسقة محكمة لا اختلال معها ولا اضطراب .
قال صاحب الكشاف : " والتكوير : اللف واللى . يقال : كارَ العمامة على رأسه وكوَّرها .
وفيه أوجه ، منها : أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويأتى مكانه هذا ، وإذا غشى مكانه ، فكأنما ألبسه ولف عليه ، كما يلف اللباس على اللابس .
ومنها : أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه فى تغييبه إياه بشئ ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار .
ومنها : أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض " .
قال بعض العلماء ما ملخصه : " والتعبير بقوله " يكور . . " تعبير عجيب ، يقسر الناظر فيه قسرا على الالتفات إلى ما كشف حديثا عن كروية الأرض فهو يصور حقيقة مادة ملحوظة على وجه الأرض ، فالأرض الكروية تدور حول نفسها فى مواجهة الشمس ، فالجزء الذى يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا . ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور . وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذى كان عليه النهار . وهذا السطح مكورن فالنهار كان عليه مكورا ، والليل يتبعه مكورا كذلك ، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل ، وهكذا فى حركة دائبة " يكور - سبحانه - الليل على النهار ويكور النهار على الليل " .
واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها ، وكروية الأرض ودورانها ، يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أى تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية .
ثم ذكر - سبحانه - دليلا ثالثا على وحدانيته وقدرته فقال : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى }
والتسخير : التذليل والانقياد والطاعة التامة . أى : وجعل - سبحانه - الشمس والقمر منقادين لأمره انقيادا تاملا وكلاهما يجرى فى مداره إلى الوقت المحدد فى علم الله - تعالى - لنهاية دورانه ، وانقطاع حركته .
وهما فى جريانهما يسيران بنظام محكم دقيق غاية الدقة ، كما قال - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { أَلا هُوَ العزيز الغفار } .
وفى تصدير الجملة الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } إشارة إلى كمال الاعتناء بمضمونه ، وإلى وجوب التدبر فيما اشتملت عليه .
أى : ألا إن الله - تعالى - : وحده هو الخالق لكل تلك المخلوقات ، وهو وحده المتصرف فيها ، والمهيمن عليها ، وهو وحده { العزيز } الغالب على كل ما سواه ، الكثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه توبة نصوحا .
( خلق السماوات والأرض بالحق ، يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ؛ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ألا هو العزيز الغفار ) . .
وهذه اللفتة إلى ملكوت السماوات والأرض ، وإلى ظاهرة الليل والنهار ، وإلى تسخير الشمس والقمر توحي إلى الفطرة بحقيقة الألوهية التي لا يليق معها أن يكون هناك ولد ولا شريك . فالذي يخلق هذا الخلق وينشئه إنشاء ، لا يحتاج إلى الولد ولا يكون معه شريك .
وآية الوحدانية ظاهرة في طريقة خلق السماوات والأرض ، وفي الناموس الذي يحكم الكون . والنظر المجرد إلى السماوات والأرض يوحي بوحدة الإرادة الخالقة المدبرة . وما كشفه الإنسان - حتى اليوم - من دلائل الوحدة فيه الكفاية . فقد اتضح أن الكون المعروف للبشر مؤلف كله من ذرات متحدة في ماهيتها ، وأنها بدورها تتألف من إشعاعات ذات طبيعة واحدة . وقد اتضح كذلك أن جميع الذرات وجميع الأجرام التي تتألف منها سواء في ذلك الأرض التي نسكنها أم الكواكب والنجوم الأخرى في حركة دائمة ، وأن هذه الحركة قانون ثابت لا يتخلف لا في الذرة الصغيرة ولا في النجم الهائل . واتضح أن لهذه الحركة نظاماً ثابتاً هو الآخر يوحي بوحدة الخلق ووحدة التدبير . . وفي كل يوم يكشف الإنسان عن جديد من دلائل الوحدة في تصميم هذا الوجود . ويكشف عن حق ثابت في هذا التصميم لا يتقلب مع هوى ، ولا ينحرف مع ميل ، ولا يتخلف لحظة ولا يحيد .
( خلق السماوات والأرض بالحق ) . .
وأنزل الكتاب بالحق . . فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب . . وكلاهما صادر من مصدر واحد . وكلاهما آية على وحدة المبدع العزيز الحكيم .
( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) . .
وهو تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كشف حديثاً عن كروية الأرض ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أحمل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان ، لأنها نظريات تخطى ء وتصيب ، وتثبت اليوم وتبطل غداً . والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته ، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل !
مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض . فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض . فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً . ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور . وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار . وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكوراً والليل يتبعه مكوراً كذلك . وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل . وهكذا في حركة دائبة : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) . . واللفظ يرسم الشكل ، ويحدد الوضع ، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها . وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيراً أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية .
( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) . .
والشمس تجري في مدارها . والقمر يجري في مداره . وهما مسخران بأمر الله . فما يزعم أحد أنه يجريهما . وما يقبل منطق الفطرة أن يجريا بلا محرك ، يدبرهما بمثل هذا النظام الدقيق الذي لا يختل شعرة في ملايين السنين . وستجري الشمس وسيجري القمر ( لأجل مسمى ) . . لا يعلمه إلا الله سبحانه .
فمع القوة والقدرة والعزة ، هو غفار لمن يتوب إليه وينيب ، ممن يكذبون عليه ويكفرون به ، ويتخذون معه آلهة ، ويزعمون له ولداً - وقد سبق حديثهم - والطريق امامهم مفتوح ليرجعوا إلى العزيز الغفار . .
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض ، وما بين ذلك من الأشياء ، وأنه مالك الملك المتصرف ، فيه يقلب ليله ونهاره ، { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } أي : سخرهما يجريان متعاقبين لا يقران ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، كقوله : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [ الأعراف : 54 ] هذا معنى ما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم .
وقوله : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } أي : إلى مدة معلومة عند الله ثم تنقضي يوم القيامة . { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } أي : مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه .
وقوله : { بالحق } معناه بالواجب الواقع موقعه الجامع للمصالح .
وقوله : { يكور } معناه يعيد من هذا على هذا ، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض ، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخرة جزء فيستره ، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه ، فيجيء { يكور } على هذا معادلاً لقوله : { يولج } [ الحج : 61 ، لقمان : 29 ، فاطر : 13 ، الحديد : 6 ] ضداً له . وقال أبو عبيدة : هما بمعنى ، وهذا من قوله تقرير لا تحرير ، و «تسخير الشمس » دوامها على الجري واتساق أمرها على ما شاء الله تعالى ، و «الأجل المسمى » يحتمل أن يكون يوم القيامة حين تنفسد البنية ويزول جري هذه الكواكب ، ويحتمل أن يري وقت مغيبها كل يوم وليلة ، ويحتمل أن يريد أوقات رجوعها إلى قوانينها كل شهر في القمر وكل سنة في الشمس .