ثم بين - سبحانه - أنه رءوف رحيم بعباده فقال : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أى : حفى بهم ، عطوف عليهم ، يفيض عليهم جميعا من صنوف بره مالا تحصيه العقول ، ومن مظاهر ذلك أنه لا يعاجلهم بالعقوبة ، مع مجاهرتهم بمعصيته ، وأنه يرزقهم جميعا مع أن أكثرهم لا يشكرونه على نعمه .
وقوله { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } أى : يبسط رزقه ويوسعه لمن يشاء من خلقه { وَهُوَ } سبحانه { القوي العزيز } أى : وهو العظيم القوة الغالب على كل من سواه .
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم ، لا ينسى أحدا منهم ، سواء في رزقه البرّ والفاجر ، كقوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] ولها{[25804]} نظائر كثيرة .
وقوله : { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } أي : يوسع على من يشاء ، { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } أي : لا يعجزه شيء .
{ اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِن نّصِيبٍ }
يقول تعالى ذكره : الله ذو لطف بعباده ، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقترّ على من يشاء منهم وَهُوَ القَوِيّ الذي لا يغلبه ذو أيدٍ لشدّته ، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته العَزِيزُ في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يقول تعالى ذكره : من كان يريد بعمله الاَخرة نزد له في حرثه : يقول : نزد له في عمله الحسن ، فنجعل له بالواحدة عشراً ، إلى ما شاء ربنا من الزيادة وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها يقول : ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للاَخرة ، نؤته منها ما قسمنا له منها وما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ يقول : وليس لمن طلب بعمله الدنيا ، ولم يرد الله به في ثواب الله لأهل الأعمال التي أرادوه بأعمالهم في الدنيا حظّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . . إلى وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : يقول : من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ له فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنْيا . . . الاَية ، يقول : من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الاَخرة إلا النار ، ولم نزده بذلك من الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه وقسم له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد الاَخرة وعملها نزد له في عمله وَمنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدّنيْا نُؤْتِهِ مِنْها . . . إلى آخر الاَية ، قال : من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها ، ولم نجعل له في الاَخرة من نصيب الحرث العمل ، من عمل للاَخرة أعطاه الله ، ومن عمل للدنيا أعطاه الله .
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مَنْ كانَ يُرِدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال : من كان يريد عمل الاَخرة نزد له في عمله .
وقوله : وَما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قال : للكافر عذاب أليم .
ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله : { الله لطيف بعباده } ، و : { لطيف } هنا بمعنى : رفيق متحف{[10125]} ، والعباد هنا : المؤمنون ومن سبق له الخلود في الجنة ، وذلك أن الأعمال بخواتمها ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة ، وأما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم ، بل هو إملاء واستدراج . وقال الجنيد : لطف بأوليائه حتى عرفوه ولو لطف بالكفار لما جحدوه ، وقيل : { لطيف } معناه في أن نشر عنهم المناقب ، وستر عليهم المثالب{[10126]} . وقيل هو الذي لا يخاف إلا عدله ، ولا يرجى إلا فضله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله لطيف بعباده} البر منهم والفاجر...
{يرزق من يشاء وهو القوي} في هلاكهم {العزيز} في نقمته منهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقترّ على من يشاء منهم "وَهُوَ القَوِيّ "الذي لا يغلبه ذو أيدٍ لشدّته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته "العَزِيزُ" في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
من الناس من قال: إن الآية، وإن جاءت مجيئا عاما فهي خاصة للمؤمنين: هو لطيف أي بارٌّ بالمؤمنين، ومنهم من يقول: إن الآية للفريقين جميعا. للكافر والمؤمن فأما في الآخرة فهو رحيم بار بالمؤمنين خاصة.
ويحتمل أن يكون رحيما بارًّا بالفريقين.
أما في حق المؤمنين فلا شك أنه بار رحيم بهم، وأما الكفرة فهو بار في حقهم حين أخّر عنهم العذاب في الدنيا.
ثم في حق المحنة يجوز أن يوصف بالرحمة في الفريقين جميعا على ما ذكرنا. فإن قيل إنه وصف نفسه بالحلم والرحمة، وقد أخبر أنه يعذّبهم في الآخرة. قيل: إنه وإن عذّبهم فإن ذلك لا يُخرجه عن الحلم والرحمة؛ لأنه لو ترك تعذيبهم يكون سفيها؛ لأنهم قد استحقوا بالكفر التعذيب أبدا، وليس في التعذيب خروج عن الرحمة والحلم، بل في ترك التعذيب سفه وخروج عن الحكمة، لذلك كان ما ذكرنا.
{وهو القوي العزيز} هذا يخرَّج على وجهين: أحدهما: أنه لا يقوى بشيء مما أمرهم به وامتحنهم ولا يعز بذلك؛ لأنه قوي بذاته عزيز بنفسه.
الثاني: {القوي} في الانتقام والانتصار من أعدائه لأوليائه.
{العزيز} الذي لا يُعجزه شيء، ولا يلحقه الذل في ترك الطاعة والائتمار...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" الله لطيف بعباده "فلطفه بعباده إيصاله المنافع إليهم من وجه يدق على كل عاقل إدراكه، وذلك في الأرزاق التي قسمها الله لعباده وصرف الآفات عنهم، وإيصال السرور إليهم والملاذ، وتمكينهم بالقدرة والآلات إلى غير ذلك من ألطافه التي لا تدرك على حقيقتها ولا يوقف على كنهها لغموضها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{لَطِيفُ} أي عالم بدقائق الأمور وغوامضها. واللطيف هو المُلْطِف المحسن.. وكلاهما في وصفه صحيح. واللطف في الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليومَ هو لُطْفٌ منه به.
وأكثرُ ما يستعمل اللطف- في وصفه- في الإحسان بالأمور الدينية.
ويقال: خَاطَبَ العابدين بقوله: {لَطيفٌ بِعِبَادِهِ}: أي يعلم غوامضَ أحوالهم. من دقيق الرياء والتصنُّع لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم وأعمالهم.
وخاطَبَ العُصاةَ بقوله:"لطيف" : لئلا ييأسوا من إحسانه.
ويقال: خاطَبَ الأغنياءَ بقوله: "لطيف ": ليعلموا أنه يعلم دقائقَ معاملاتهم في جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطَبَ الفقراءَ. بقوله: "لطيف "أي أنه مُحْسِنٌ يرزق من يشاء.
ويقال: سماعُ قوله: "اللَّهُ" يوجِبَ الهيبةَ والفزع، وسماعُ "لطيفٌ" يوجِبُ السكونَ والطمأنينة، فسماعُ قوله: "اللَّهُ" أوجب لهم تهويلاً، وسماع قوله: "لطيفٌ" أوجب لهم تأميلاً.
ويقال: اللطيفُ مَنْ يعطي قَدْرَ الكفاية وفوق ما يحتاج العبدُ إليه.
ويقال: مَنْ لُطفِه بالعبد عِلْمُه بأنه لطيف، ولولا لُطفُه لَمَا عَرَفَ أنه لطيف.
ويقال: مِنْ لُطْفِه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكَلَّفَه دون الطاقة.
ويقال: مِنْ لُطفِه بالعبد إبهام عاقبته عليه؛ لأنه لو علم سعادتَه لاتَّكَلَ عليه، وأَقَلَّ عملَه ولو عَلِمَ شقاوتَه لأيِسَ ولَتَرَكَ عَمَله.. فأراده أن يستكثرَ في الوقت من الطاعة.
ويقال: من لطفه بالعبد إخفاءُ أَجِلِه عنه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أَجَلُه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لا لطف إلا ما آل إلى الرحمة، وأما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم بل هو إملاء واستدراج...
{يرزق من يشاء} يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{يرزق من يشاء} يعني: الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6] أي: ما تقوم به الحياة، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره والزائد خاص بمن شاء الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف، وكان هذا عين اللطف، فأنه الوصول إلى الشيء بضده، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق، أنتج ذلك قوله: {الله} أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد {لطيف} أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه...
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق، فإنه يوسع على من لا حيلة له، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف: {يرزق من يشاء} مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه.
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال: {وهو القوي} أي فلا يضيق عطاؤه بشيء.
{العزيز} فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة توطئة لجملة {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} [الشورى: 20] لأن ما سيذكر في الجملة الآتية هو أثر من آثار لطف الله بعباده ورفقه بهم وما يَسَّر من الرزق للمؤمنين منهم والكفار في الدّنيا، ثم ما خصّ به المؤمنين من رزق الآخرة، فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً مقدِّمة لاستئناف الجملة الموطَّإ لها، وهي جملة {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} الآية [الشورى: 20]...
وعُطف {وهو القوي العزيز} على صفة {لطيف} أو على جملة {يرزق من يشاء} وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة، فإنه قوي عزيز لا يَعجز ولا يصانِع، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قِلّةٍ فإنه القويّ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة عَلِمها في أحوال خلقه عامة وخاصة، قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكِنْ ينزِّل بقَدَر ما يشاء} [الشورى: 27] الآية...