ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على إيمانهم بما سمعوه فقال : { ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله . . . } .
أى : وقالوا لقومهم - أيضا - : يا قومنا أجيبوا داعى الله الذى دعاهم الى الحق وإلى طريق مستقيم . { وَآمِنُواْ بِهِ } أى : وآمنوا بهذا الرسول اكريم وبما جاء من عند ربه .
{ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أى : أجيبوا داعى الله وآمنوا به ، يغفر لكم ربكم من ذنوبكم التى وقعتم فيها ، ويبعدكم بفضله ورحمته من عذاب أليم .
والتعبير بقوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } يدل على حسن أدبهم ، وعلى أنهم يفوضون المغفرة إلى ربهم ، فهو - سبحانه - إنشاء غفرها جميعا ، وإن شاء غفر بعضها
ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع ، الذي يحس أن عليه واجبا في النذارة لا بد أن يؤديه :
( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم ) . .
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن ؛ واعتبروا محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] داعيا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له : فنادوا قومهم : ( يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) . .
وآمنوا كذلك بالآخرة ، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب . فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه .
{ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدًا صلوات الله وسلامه عليه {[26594]} إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ؛ ولهذا قال{[26595]} { أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ }
وقوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } قيل : إن " من " هاهنا زائدة وفيه نظر ؛ لأن زيادتها في الإثبات قليل ، وقيل : إنها على بابها للتبغيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : ويقيكم من عذابه الأليم .
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ؛ ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : حدثت عن جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لا يدخل مؤمنو الجن الجنة ؛ لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة .
والحق أن مُؤمِنَهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة{[26596]} من السلف ، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 74 ] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 46 ، 47 ] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجِنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس ، فقالوا : " ولا بِشَيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد " فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار - وهو مقام عدل - فَلأنْ يجازي مؤمنهم بالجنة - وهو مقام فَضْل - بطريق الأولى والأحرى . ومما يدل أيضا على ذلك عمومُ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نزلا } [ الكهف : 107 ] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ، ولله الحمد والمنة . وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا ، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة . ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن {[26597]} الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح ، عليه السلام ، يقول لقومه : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ نوح : 4 ] ، {[26598]} ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عُمَر بن عبد العزيز : أنهم لا يدخلون بُحْبُوحَةَ الجنة ، وإنما يكونون في رَبَضها وحولها وفي أرجائها . ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا . ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ، عِوَضا عن الطعام والشراب كالملائكة ، لأنهم من جنسهم . وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.