ثم بين - سبحانه - القيمة الحقيقية للمال وللبنين فقال : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } .
والمال : اسم لكل ما يتموله الإِنسان ويتملكه من النقود والعقار والحرث والأنعام . . إلخ والبنون : جمع ابن .
والزينة : مصدر . والمراد بها هنا ، ما فى الشئ من محاسن ترغب الإنسان فى حبه .
أى : المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان فى هذه الحياة الدنيا ، ويتباهى بها على غيره .
وإنما كانا كذلك ، لأن فى المال - كما يقول القرطبى - جمالا ونفعا ، وفى البنين قوة ودفعا .
قال الآلوسى : " وتقديم المال على البنين - مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك . . ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بغير مال فهو فى أضيق حال . . " .
وفى التعبير بقوله - سبحانه - زينة ، بيان بديع . وتعبير دقيق لحقيقتهما ، فهما زينة وليسا قيمة ، فلا يصح أن توزن بهما أقدار الناس ، وإنما توزن أقدار الناس بالإِيمان والعمل الصالح ، كما قال - تعالى - { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } ولذا جاء التعقيب منه - سبحانه - بقوله : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } .
أى : المال والبنون زينة يتزين ويتفاخر بها كثير من الناس فى هذه الحياة الدنيا ، وإذا كان الأمر كذلك فى عرف كثير منهم . فإن الأقوال الطيبة ، والأعمال الحسنة ، هى الباقيات الصالحات ، التى تبقى ثمارها للإِنسان ، وتكون عند الله - تعالى - { خير } من الأموال والأولاد ، ثوابا وجزاء وأجرا { وخير أملا } حيث ينال بها صاحبها فى الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه فى الدنيا من فوز بنعيم الجنة ، أما المال والبنون فكثيرا ما يكونان فتنة .
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار فى تعيين المراد بالباقيات الصالحات فقال : قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : والباقيات الصالحات : الصلوات الخمس .
وقال عطاء بن أبى رياح وسعيد بن جبير عن ابن عباس : { والباقيات الصالحات } : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . . .
ويبدو لنا أن قوله - تعالى - : { والباقيات الصالحات } لفظ عام ، يشمل كل قول ، أو عمل يرضى الله - عز وجل - ويدخل فى ذلك دخولا أوليا : الصلوات الخمس وغيرها مما ذكره المفسرون من أقوال .
وبعد أن يلقي مشهد الحياة الذاهبة ظله في النفس يقرر السياق بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض ، والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام :
( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا ، وخير أملا ) . .
المال والبنون زينة الحياة ؛ والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات . ولكنه يعطيها القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد .
إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة . فما يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما في الحياة . إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات .
وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين فإن الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا . عندما تتعلق بها القلوب ، ويناط بها الرجاء ، ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء .
وهكذا يتناسق التوجيه الإلهي للرسول [ ص ] في أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم في الغداة والعشي يريدون وجهه . مع إيحاء قصة الجنتين . مع ظل المثل المضروب للحياة الدنيا . مع هذا التقرير الأخير للقيم في الحياة وما بعد الحياة . . وتشترك كلها في تصحيح القيم بميزان العقيدة . وتتساوى كلها في السورة وفق قاعدة التناسق الفني والتناسق الوجداني في القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } .
يقول تعالى ذكره : المال والبنون أيها الناس التي يفخر بها عيينة والأقرع ، ويتكبران بها على سلمان وخباب وصهيب ، مما يتزين به في الحياة الدنيا ، وليسا من عداد الاَخرة والباقياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا يقول : وما يعمل سلمان وخباب وصهيب من طاعة الله ، ودعائهم ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ، الباقي لهم من الأعمال الصالحة بعد فناء الحياة الدنيا ، خير يا محمد عند ربك ثوابا من المال والبنين التي يفتخر هؤلاء المشركون بها ، التي تفنى ، فلا تبقى لأهلها وخَيْرٌ أمَلاً يقول : وما يؤمل من ذلك سلمان وصهيب وخباب ، خير مما يؤمل عيينة والأقرع من أموالهما وأولادهما . وهذه الاَيات من لدن قوله : وَاتْلُ ما أُوحيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ إلى هذا الموضع ، ذُكر أنها نزلت في عيينة والأقرع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارىء الأزد ، عن أبي الكنود ، عن خباب في قوله : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشيّ ثم ذكر القصة التي ذكرناها في سورة الأنعام في قصة عيينة والأقرع ، إلى قوله : وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَه عَنْ ذِكْرِنا قال : عيينة والأقرع وَاتّبعَ هَوَاهُ قال : قال : ثم قال ضرب لهم مثلاً رجلين ، ومثل الحياة الدنيا .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالباقيات الصالحات ، اختلافهم في المعنىّ بالدعاء الذي وصف جلّ ثناؤه به الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن طردهم ، وأمره بالصبر معهم ، فقال بعضهم : هي الصلوات الخمس . وقال بعضهم : هي ذكر الله بالتسبيح والتقديس والتهليل ، ونحو ذلك . وقال بعضهم : هي العمل بطاعة الله . وقال بعضهم : الكلام الطيب . ذكر من قال : هي الصلوات الخمس :
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : حدثنا يعقوب بن كاسب ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي قال : سمعت عبد الله بن يزيد بن هرمز ، يحدّث عن عبيد الله بن عتبة ، عن ابن عباس أنه قال : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس .
حدثني زريق بن إسحاق ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَالباقِياتُ الصّالِحاتُ قال : الصلوات الخمس .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن شُرَحبيل في هذه الاَية والباقياتُ الصّالِحاتُ قال : هي الصلوات المكتوبات .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد الله بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان عن الحسن بن عبد الله ، عن إبراهيم ، قال الباقِياتُ الصّالِحاتُ الصلوات الخمس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة والباقِياتُ الصّالِحاتُ قال : الصلوات الخمس . ذكر من قال : هنّ ذكر الله بالتسبيح والتحميد ونحو ذلك :
حدثنا ابن حميد وعبد الله بن أبي زياد ومحمد بن عمارة الأسدي ، قالوا : حدثنا عبد الله بن يزيد ، قال : أخبرنا حيوة ، قال : أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصدّيق ، أنه سمع الحرث مولى عثمان بن عفان ، يقول : قيل لعثمان : ما الباقيات الصالحات ؟ قال : هنّ لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله .
حدثني سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا حيوة ، قال : حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع الحرث مولى عثمان بن عفان يقول : قيل لعثمان بن عفان : ما الباقيات الصالحات ؟ قال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله وبحمده ، والله أكبر ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله .
حدثني ابن عبد الرحيم البرّقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا نافع بن يزيد ورشدين بن سعد ، قالا : حدثنا زهرة بن معبد ، قال : سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول : قالوا لعثمان : ما الباقيات الصالحات ؟ فذكر مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالباقِياتُ الصّالِحاتُ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله وَالباقِياتُ الصّالِحاتُ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : الباقِياتُ الصّالِحاتُ : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن نافع بن سرجس ، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات ، قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله . قال ابن جريج ، وقال عطاء بن أبي رَباح مثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله والباقياتُ الصّالِحاتُ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني أبو صخر : أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد الله ، حدثه قال : أرسلني سالم بن محمد بن كعب القُرَظي ، فقال : قل له الْقَنِي عند زاوية القبر ، فإن لي إليك حاجة ، قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الاَخر ، ثم قال سالم : ما تعدّ الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها لا حول ولا قوّة إلا بالله ؟ فقال : ما زلت أجعلها ، قال : فراجعه مرّتين أو ثلاثا فلم ينزع . قال : فأثبت ، قال سالم : أجل ، فأثبت فإن أبا أيوبَ الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «عُرِجَ بِي إلى السّماءِ فَأُرِيتُ إبْرَاهِيمَ ، فقال : يا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا مَعَك ؟ فقالَ : مُحَمّد ، فَرَحّبَ بِي وَسَهّلَ ، ثُمّ قالَ : مُرْ أمّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الجَنّةِ ، فإنّ تُرْبَتَها طَيّبَةٌ ، وأرْضُها وَاسِعَةٌ ، فَقُلْتُ : وَما غِرَاسُ الجَنّةِ ؟ قالَ : لا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّهِ » .
وجدت في كتابي عن الحسن بن الصّباح البَرّار ، عن أبي نصر التمار ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المَقْبُري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سُبْحَانَ اللّهِ ، والحَمْدُ لِلّهِ ، وَلا إلهَ إلاّ اللّهُ ، وَاللّهُ أكْبَرُ مِنَ الباقِياتِ الصّالِحاتِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله : والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هنّ الباقيات الصالحات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث ، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدريّ ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اسْتَكْثَرُوا مِنَ الباقِياتِ الصّالِحاتِ » ، قيلَ : وما هي يا رسول الله ؟ قال : «المِلّة » ، قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : «التّكْبِيرُ والتّهْلِيلُ والتسبِيحُ ، والحَمْدُ ، ولا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّهِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن عمارة بن صياد ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد : الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله .
حدثني ابن البَرْقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : ثني ابن عَجْلان ، عن عمارة بن صياد ، قال : سألني سعيد بن المسيب ، عن الباقيات الصالحات ، فقلت : الصلاة والصيام ، قال : لم تصب فقلت : الزكاة والحجّ ، فقال : لم تصب ، ولكنهنّ الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله . ذكر من قال : هي العمل بطاعة الله عزّ وجلّ :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس والباقِياتُ الصّالحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا وخَيْرٌ أمَلاً قال : الأعمال الصالحة : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : والباقِياتُ الصّالحاتُ قال : هي ذكر الله قول لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله والصيام والصلاة والحجّ والصدقة والعتق والجهاد والصلة ، وجميع أعمال الحسنات ، وهنّ الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا وخَيْرٌ أمَلاً قال : الأعمال الصالحة . ذكر من قال : هي الكلم الطيب :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والباقياتُ الصّالِحاتُ قال : الكلام الطيب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : هنّ جميع أعمال الخير ، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الاَخرة ، وعليها يجازي ويُثاب ، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا بعضا دون بعض في كتاب ، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد بأن قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هنّ من الباقيات الصالحات ، ولم يقل : هنّ جميع الباقيات الصالحات ، ولا كلّ الباقيات الصالحات وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات ، وغيرها من أعمال البرّ أيضا باقيات صالحات .
اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال ، كقوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملاً . والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب ، قال طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كـــــــرام سادة لمسوّد
و{ والباقيات الصالحات } صفتان جرتا على موصوف محذوف ، أي الأعمال الصالحات الباقيات ، أي التي لا زوال لها ، أي لا زوال لخيرها ، وهو ثوابها الخالد ، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية .
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم { الصالحات } على { والباقيات } لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات ، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات ، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها ، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ ( الصالحات ) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير ، وذلك كثير في القرآن قال تعالى : { وعملوا الصالحات } [ الكهف : 107 ] ، وفي كلامهم قال جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ *** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا ، فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباقٍ ، وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله : { فأصبح هشيماً تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن ، وكان قوله : والباقيات } مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً } [ مريم : 76 ] فإنه وقع إثر قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً } [ مريم : 73 74 ] الآية .
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس ، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً .
ومعنى { وخير أملاً } أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته . وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد ، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . فلا جرم كان قوله : { وخير أملاً } بالتحقق والعموم تذييلاً لما قبله .