فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا} (46)

{ المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } هذا ردّ على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة ، كما قال في الآية الأخرى { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] . وقال : { إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَكُمْ فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] . ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله : { والباقيات الصالحات } أي : أعمال الخير ، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } أي : أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثواباً ، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي أفضل أملاً ، يعني : أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين ، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا ، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة ، ولكن هذا التفضيل خرّج مخرج قوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال [ البعض ] ، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر ، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : { المال والبنون } حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد جمعهما الله لأقوام . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { والباقيات الصالحات } قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هنّ يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوّة إلا بالله ) ، وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ : ( سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، هنّ الباقيات الصالحات ) وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الصغير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً : ( خذوا جِنَّتَكم ، قيل : يا رسول الله من أيّ عدوّ قد حضر ؟ قال : بل جِنَّتَكم من النار قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فإنهنّ يأتين يوم القيامة مقدّمات معقبات ومجنبات ، وهي الباقيات الصالحات ) . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وابن مردويه عن النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا وإن سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، الباقيات الصالحات ) وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعاً ، وزاد التكبير وسماهنّ الباقيات الصالحات . وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً نحوه ، وزادت : ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من حديث عليّ مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً فذكر نحوه دون الحوقلة . وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعاً نحوه . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير عن ابن عمر من قوله نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه . وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات ، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كل شيء من طاعة الله ، فهو من الباقيات الصالحات .