التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا} (46)

اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال ، كقوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 ] وأن ما أعد الله للمؤمنين خير عند الله وخير أملاً . والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة في العرب ، قال طرفة :

فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كـــــــرام سادة لمسوّد

و{ والباقيات الصالحات } صفتان جرتا على موصوف محذوف ، أي الأعمال الصالحات الباقيات ، أي التي لا زوال لها ، أي لا زوال لخيرها ، وهو ثوابها الخالد ، فهي خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التي هي غير باقية .

وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم { الصالحات } على { والباقيات } لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات ، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات ، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها ، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ ( الصالحات ) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير ، وذلك كثير في القرآن قال تعالى : { وعملوا الصالحات } [ الكهف : 107 ] ، وفي كلامهم قال جرير :

كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ *** من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني

ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا ، فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباقٍ ، وهو المال والبنون ، كقوله تعالى : { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [ الرعد : 26 ] ، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف ، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه ، فكان قوله : { فأصبح هشيماً تذروه الرياح } [ الكهف : 45 ] مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن ، وكان قوله : والباقيات } مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام ، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة ، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً .

ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً } [ مريم : 76 ] فإنه وقع إثر قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً } [ مريم : 73 74 ] الآية .

وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس ، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً .

ومعنى { وخير أملاً } أن أمل الآمل في المال والبنين إنما يأمل حصول أمر مشكوك في حصوله ومقصور على مدته . وأما الآمل لثواب الأعمال الصالحة فهو يأمل حصول أمر موعود به من صادق الوعد ، ويأمل شيئاً تحصل منه منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة كما قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . فلا جرم كان قوله : { وخير أملاً } بالتحقق والعموم تذييلاً لما قبله .