السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا} (46)

ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ولما كانت زينة الحياة الدنيا سريعة الانقضاء والانقراض أنتج إنتاجاً بديهياً أنّ المال والبنون سريع الانقضاء والانقراض وما كان كذلك فإنه ينتج بالعقل أن لا يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً وهذا برهان ظاهر باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال . ثم ذكر تعالى ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال : { والباقيات الصالحات خير } ، أي : من الزينة الفانية لأنّ خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لاسيما وقد ثبت أنّ خيرات الدنيا حقيرة خسيسة وأنّ خيرات الآخرة رفيعة شريفة .

والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله . وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال : روي أنّ من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال : الحمد لله صارت عشرين فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل [ الخيرات ] .

فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا بمضاعفة الثواب فإذا قال مع ذلك : لا إله إلا اللّه فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي وهو المبتدئ لكل ما ينبغي ليس في الوجود موجود هكذا إلا هو الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال العبد : واللّه أكبر فمعنى أنه أكبر أنه أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة فلا جرم صارت درجات الثواب أربعة . وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لأن أقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس » . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هنّ يا رسول اللّه قال : التكبير والتهليل والتسبيح والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه » .

ثانيها أنها الصلاة الخمس .

ثالثها أنها الطيب من القول .

رابعها وهو أعمها ، وأولاها أنها أعمال الخيرات التي تبقى ثمراتها أبد الآباد فيندرج في ذلك الصلاة وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه والكلام الطيب وغير ذلك من كل عمل وقول دعاك لمحبة اللّه تعالى ومعرفته وخدمته ، وأما ما دعاك من قول أو عمل إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك لأن كل ما سوى الحق فهو فانٍ لذاته فكان الاشتغال به والإنفاق عليه باطلاً وسعياً ضائعاً ، وأما الحق لذاته فهو الباقي الذي لا يقبل الزوال ، لا جرم كان الاشتغال بمحبته ومعرفته وطاعته وخدمته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولما كان أهم ما إلي من حصل البقاء ليس لكفايته بل لمن يحفظها له لوقت حاجته قال تعالى : { عند ربك } أي : الجليل المواهب العالم بالعواقب وخير من المال والبنين في العاجل والآجل { ثواباً وخير } من ذلك كله { أملاً } أي : من جملة ما يرجوه فيها من الثواب

ويرجوه فيها من الأمل لأن ثوابها إلى بقاء آمالها كل ساعة في تحقق وعلوّ وارتقاء وآمل المال والبنين يخان أحوج ما يكون إليهما ، وعن قتادة كل ما أريد به وجه اللّه تعالى خير ثواباً أي : ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة .