157- وغضب الله عليهم بسبب قولهم مستخفين : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، والحق المستيقن أنهم ما قتلوه ، كما زعموا وما صلبوه كما ادعوا . . ولكن شُبِّه لهم ، فظنوا أنهم قتلوه وصلبوه ، وإنما قتلوا وصلبوا من يشبهه ، وقد اختلفوا من بعد ذلك في أن المقتول عيسى أم غيره ، وأنهم جميعاً لفي شك من أمره . . والواقع أنهم يقولون ما لا علم لهم به إلا عن طريق الظن ، وما قتلوا عيسى قطعاً .
ثم سجل عليهم بعد ذلك رذيلة سابعة ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد فى كل زمان ومكان فقال : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } والمسيح : لقلب تشريف وتكريم لعيسى - عليه السلام - قيل : لقب بذلك لأنه ممسوح من كل خلق ذميم . وقيل : لأنه مسح بالبركة كما فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } وقيل لأن الله مسح عنه النذوب .
أى : وبسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، لعنهم الله وغضب عليهم ، كما لعنهم وغضب عليهم - أيضا - بسبب جرائمهم السابقة .
وهذا القول الذى صدر عنهم هو فى ذاته جريمة ؛ لأنهم قالوه على سبيل التبجح والتفاخر لقتلهم - فى زعمهم - نبيا من أنبياء الله ، ورسولا من أولى العزم من الرسل .
وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع ، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله ففعلا ، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة ، فدسوا عليه عند الرومان ، ووصفوه بالدجل والشعوذة ، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه ، بل زعموا أنهم أسلموا فعلا لهم ، ولكن الله - تعالى - خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وحال بينهم وبين ما يشتهون ، حيث نجى عيسى - عليه السلام - من شرورهم ، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم .
ولا شك أن صدر عن اليهود فى حق عيسى - عليه السلام - من محاولة قتله ، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم ، ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه ، لا شك أن كل ذلك يعتبر من أكبر الجرائم ؛ لأنه من المقرر فى الشرائع والقوانين أن من شرع فى ارتكاب من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها ، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته ، فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد .
واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى - عليه السلام - كما بينا - ، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن طاقتهم . ومنعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإِتمام جريمتهم النكراء لما تقاعسوا عنها ، ولأسرعوا فى تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم فى تفكيره ، وفى نيته ، وفى شروعه الأثيم ، لارتكاب ما نهى الله عنه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كانوا كافرين بعيسى - عليه السلام - أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، فيكف قالوا : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } ؟
قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح فى الحكاية عنهم ، رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به ، وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً }
وقوله - تعالى - { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } رد على مزاعمهم الكاذبة ، وأقاويلهم الباطلة التى تفاخروا بها بأنهم قتلوا عيسى - عليهم السلام - . أى : إن ما قاله اليهود متفاخرين به ، وهو زعمهم أنه قتلوا عيسى - عليه السلام - ، هو من باب أكاذيبهم المعروفة عنهم ؛ فإنهم ما قتلوه ، وما صلبوه ولكن الحق أنهم قتلوا رجلا آخر يشبه عيسى - عليه السلام - فى الخلقة فظنوه إياه وقتلوه وصلبوه ، ثم قالوا . إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله .
قال الفخر الرازى : قوله : { شُبِّهَ } مسند إلى ماذا ؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه . وإن أسندته إلى المقتول لم يجر له ذكر ؟ والجواب من وجهين :
الأول : أنه مسند إلى الجار والمجرور .
وهو كقولك : خيل إليه . كأنه قيل : ولكن قوع لهم الشبه . الثانى : أن يسند إلى ضمير المقتول ، لأن قوله { وَمَا قَتَلُوهُ } يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق فحسن إسناد { شُبِّهَ } إليه .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، فأكذبهم الله - تعالى - فى ذلك وقال : { ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } . أى : شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح فلما دخلوا عليه ليقتلوه - أى ليقتلوا المسيح - وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه ، يظنونه المسيح وما هو فى الواقع ، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء ، ونجاه من شر الأعداء .
وقيل المعنى : ولكن التبس عليهم الأمر حيث ظنوا المقتول عيسى كما أوهم بذلك أحبارهم .
هذا ، وللمفسرين فى بيان كيفية التشبيه لهم وجوه من أهمها اثنان :
الأول : أن الله - تعالى - ألقى شبه عيسى - عليه السلام - على أحد الذين خانوه ودبروا قتله وهو ( يهوذا الإِسخربوطى ) الذى كان غينا وجاسوسا على المسيح ، والذى أرشد الجند الذين أرادوا قتله إلى مكانه ، وقال لهم : من أقبله أمامكم يكون هو المسيح ، فاقبضوا عليه لتقتلوه ، فدخل بين عيسى ليدلهم عليه ليقتلوه فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى .
وهذا الوجه قد جاء مفصلا فى بعض الأناجيل وأشار إليه الآلوسى بقوله : كان رجل من الحواريين ينافس عيسى - عليه السلام - فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، وأخذ على ذلك ثلاثين درهما ، فدخل بيت عيسى - عليه السلام - فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فتقوله ، وهم يظنون أنه عيسى .
الثانى : أن الله - تعالى - القى شبه المسيح على أحد تلاميذه المخلصين حينا أجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه سيرفعه إليه ، فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ؟ فقال رجل منهم أنا . فألقى الله صورة عيسى عليه ، فقتل ذلك الرجل وصلب .
وقد أطالب الإِمام ابن كثير فى ذكر الروايات التى تؤيد هذا الوجه ، ومنها قوله : عن ابن عباس قال : لما أراد الله - تعالى - أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه وفى البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين فقال لهم إن منكم من يكفر بعدى اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن بى .
قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى ، ويكون معى فى درجتى ؟
فقال شاب من أحدثهم سنا . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقال ذلك الشاب . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقام ذلك الشاب . فقال : أنا .
فقال له عيسى ، هو أنت ذاك . فألقى عليه شبه عيسى . ورفع عيسى من روزنة فى البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس ، ورواه النسائى عن أبى كريب عن أبى معاوية ، وقال غير واحد من السلف : أنه قال لهم . أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى وهو رفيقى فى الجن . . .
والذى يجب اعتقاده بنص القرآن الكريم أن عيسى - عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، وإنما رفعه الله إليهم ، ونجاه من مكر أعدائه ، أما الذى قتل وصلب فهو شخص سواه .
ثم قال - تعالى - { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } . أى : وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى شك دائم من حقيقة أمره . أى : فى حيرة وتردد ، ليس عندهم علم ثابت قطعى فى شأنه ، أو فى شأن قتله ، ولكنهم لا يتبعون فيما يقولونه عنه إلا الظن الذى لا تثبت به حجة . ولا يقوم عليه برهان .
ولقد اختلف أهل الكتاب فى شأن عيسى اختلافا كبيراً . فمنهم من زعم أنه ابن الله . وادعى أن فى عيسى عنصرا إليها مع العنصر الإِنسانى . وأن الذى ولدته مريم هو العنصر الإِنسانى . ثم أفاض عليه بعد ذلك العنصر الإِلهى .
ومنهم من قال : إن مريم ولدت العنصرين معا .
ولقد اختلفوا فى أمر قتله . فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه قتلا حقيقا ، وتردد آخرون فقالوا : إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا . وإن كان المقتول صاحبنا فأين عيسى ؟
وقال آخرون : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا .
إلى غير ذلك من خلاقاتهم التى لا تنتهى حول حقيقة عيسى وحول مسألة قتله وصلبه .
فالمراد بالموصول فى قوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا } ما يعم اليهود والنصارى جميعا . والضمير فى قوله ( فيه ) يعود إلى عيسى - عليه السلام - .
وقوله { مِّنْهُ } جار مجرور متعلق بمحذوف صفة الشك .
قال الآلوسى : وأصل الشك أن يستعمل فى تساوى الطرفين ، وقد يستعمل فى لازم معناه وهو التردد مطلقا ، وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا . ولذا أكده بنفى العلم الشامل لذلك أيضا بقوله - سبحانه - : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } .
وقوله { إِلاَّ اتباع الظن } الراجح أن الاستثناء فيه منقطع ، أى مالهم به من علم لكنهم يتبعون الظن .
وقيل : هو متصل ، لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين .
ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما فيكف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم إمارة ظنوا .
ولم يرتض هذا الجواب صاحب الانتصاف فقال : وليس فى هذا الجواب شفاء الغليل . والظاهر - والله أعلم - أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك فى أمرهم والتردد ، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ، ثم كانوا لا يخلون من ظن فى بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرتفعون إلى العلم فيه البتة . وكيف يعلم الشئ على ما خلاف ما هو به ؟ فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة فى الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن .
وقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } تأكيد لنجاة عيسى مما يزعمونه من قتلهم له ، وبيان لما أكرمه الله به من رعاية وتشريف .
واليقين : هو العلم الجازم الذى لا يحمتل الشك والضمير فى قوله { وَمَا قَتَلُوهُ } لعيسى .
وقوله { يَقِيناً } ذكر النحاة فى إعرابه وجوها من أشهرها : أنه نعت لمصدر محذوف مأخوذ من لفظ قتلوه : أى : ما قتلوه قتلا يقينا ، أى متيقنين معه من أن المقتول عيسى عليه السلام - وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذى اعتراهم .
أو هو حال مؤكدة لنفى القتل . أى انتفى قتلهم إياه إنتفاء يقينا . فاليقين منصب على النفى . أى : أن : نفى كونه قد قتل أمر متيقن مؤكد مجزوم به ، وليس ظنا كظنكم أو وهما كوهمكم يا معشر أهل الكتاب .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك بقوله : قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أى : وما قتلوه قتلا يقينا . أو ما قتلوه متيقنين كما ادعوا ذلك فى قولهم { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح } أو يجعل { يَقِيناً } تأكيدا لقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ } كقولك : ما قتلوه حقا . أى حق انتفاء قتله حقا .
والمعنى : أن اليهود قد زعموا أنهم قتلوا عيسى - عليه السلام - وزعمهم هذا أبعد ما يكون عن الحق والصواب ، لأن الحق المتيقن فى هذه المسألة أنهم لم يقتلوه ، فقد نجاه الله من مكرهم ، ورفع عيسى إليه ، وكان الله { عَزِيزاً } . أى منيع الجناب ، لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه وحماه . { حَكِيماً } فى جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور .
هذا ، وجمهور العلماء على أن الله - تعالى - رفع عيسى إليه بجسده وروحه لا بروحه فقط قال بعض العلماء : والجمهور على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء . والخصوصية له - عليه السلام - هى فى رفعه بجسده وبقائه فيها إلى الأمر المقدر له .
وفى بعضهم الرفع فى قوله - تعالى - { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } بأنه رفع بالروح فقط .
وقد بسطنا القول فى هذه المسألة عند تفسيرنا لسورة آل عمران فى قوله تعالى - : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }
ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون : ( قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ) !
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها ، وتقرير الحق فيها :
( وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ؛ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيمًا ) . .
إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه ، قضية يخبط فيها اليهود - كما يخبط فيها النصارى بالظنون - فاليهود يقولون : إنهم قتلوه ويسخرون من قوله : إنه رسول الله ، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية ! والنصارى يقولون : إنه صلب ودفن ، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام . و " التاريخ " يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب !
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين . . فلقد تتابعت الأحداث سراعا ؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين . . إلا ما يقصه رب العالمين . .
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته . . كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح ؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد . . وقد كتبت معها أناجيل كثيرة . ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد ؛ واعتبرت رسمية ، واعترف بها ؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات !
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة : إنجيل برنابا . وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة ، في قصة القتل والصلب ، فيقول :
" ولما دنت الجنود مع يهوذا ، من المحل الذي كان فيه يسوع ، سمع يسوع دنو جم غفير . فلذلك انسحب إلى البيت خائفا . وكان الأحد عشر نياما . فلما رأى الخطر على عبده ، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل ، سفراءه . . أن يأخذوا يسوع من العالم . فجاء الملائكة الأطهار ، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب ، فحملوه ، ووضعوه في السماء الثالثة ، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد . . ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع . وكان التلاميذ كلهم نياما . فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع . حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع . أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم . لذلك تعجبنا وأجبنا : أنت يا سيدي معلمنا . أنسيتنا الآن ؟ . . إلخ " .
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة - التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر - ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية .
( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه . ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) .
{ وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلََكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وبِقَوْلِهمْ أنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ . ثم كذّبهم الله في قِيلهم ، فقال : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ يعني : وما قتلوا عيسى وما صلبوه ، ولكن شبّه لهم .
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شُبّه لليهود في أمر عيسى ، فقال بعضهم : لما أحاطت اليهود به وبأصحابه ، أحاطوا بهم ، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه ، وذلك أنهم جميعا حُوّلوا في صورة عيسى ، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى ، عيسى من غيره منهم ، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القميّ ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه ، قال : أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، وأحاطوا بهم ، فلما دخلوا عليهم صوّرهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلَنّكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا . فخرج إليهم فقال : أنا عيسى وقد صوّره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه . فمن ثمّ شُبّه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك .
وقد رُوي عن وهب بن منبه غير هذا القول ، وهو ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن مَعْقِل ، أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشقّ عليه ، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما ، فقال : احضُروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عَشّاهم ، وقام يخدمهم ، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضّئُهُمْ بيده ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من ردّ عليّ شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقرّوه ، حتى إذا فرغ من ذلك ، قال : أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعظّم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم . وأما حاجتي التي استعنتكم عليها ، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء أن يوخّر أجلي فلما نصبوا أنفسهم للدعاء ، وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها ؟ قالوا : والله ما ندري ما لنا ، لقد كنا نسمُر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا وما نريد دعاء إلا حِيل بيننا وبينه فقال : يُذْهَب بالراعي وتتفرّق الغنم . وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَي به نفسه ، ثم قال : الحقّ ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرّات ، ولَيبيعّني أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلنّ ثمني فخرجوا وتفرّقوا . وكانت اليهود تطلبه ، فأخذوا شمعون أحد الحواريين ، فقالوا : هذا من أصحابه ، فجحد ، وقال : ما أنا بصاحبه ، فتركوه . ثم أخذه آخرون ، فجحد كذلك ، ثم سمع صوت ديك ، فبكى وأحزنه . فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود ، فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلّهم عليه ، وكان شُبّه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل ، فجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان وتبرىء المجنون ؟ أفلا تنجى نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شُبّه لهم ، فمكث سبعا . ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب ، فجاءهما عيسى ، فقال : علام تبكيان ؟ قالتا عليك ، فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شُبّه لهم ، فأْمُرا الحواريين أن يَلْقَوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر ، وفُقِد الذي كان باعه ودلّ عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه ، فقالوا : إنه ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه . فقال : لو تاب لتاب الله عليه ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له : يُحَنّا ، فقال : هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدّث بلغة قوم ، فلينذرهم وليدعهم .
وقال آخرون : بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يُلْقَى على بعضهم شبهه ، فانتدب لذلك رجل ، فأُلقي عليه شبه ، فَقُتل ذلك الرجل ورُفع عيسى ابن مريم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ . . . إلى قوله : وكانَ اللّهُ عَزِيزا حَكِيما أولئك أعداء الله اليهود اشتهروا بقتل عيسى بن مريم رسول الله ، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه . وذُكر لنا أن نبيّ الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم يُقذف عليه شبهي فإنه مقتول ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا يا نبيّ الله . فقُتل ذلك الرجل ، ومنع الله نبيه ورفعه إليه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ قال : أُلِقي شبهه على رجل من الحواريين فقُتل ، وكان عيسى ابن مريم عَرَض ذلك عليهم ، فقال : أيكم ألِقي شبهِي عليه وله الجنة ؟ فقال رجل : عليّ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أن بني إسرائيل حَصَروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيُقتل وله الجنة ؟ فأخذها رجل منهم . وصُعِد بعيسى إلى السماء ، فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر ، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعد به إلى السماء ، فجعلوا يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلاً من العِدّة ، ويرون صورة عيسى فيهم ، فشكّوا فيه . وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه ، فذلك قول الله تبارك وتعالى : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ . . . إلى قوله : وكانَ اللّهُ عَزِيزا حَكِيما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن القاسم بن أبي بزّة : أن عيسى ابن مريم قال : أيكم يُلقي عليه شبهِي فيُقتل مكاني ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا يا رسول الله . فأُلقي عليه شبهه ، فقتلوه ، فذلك قوله : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله ، رجلاً منهم يقال له : داود ، فلما أجمعوا لذلك منه لم يَفْظَع عبدٌ من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فَظَعُه ، ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه حتى إنه ليقول فيما يزعمون : اللهمّ إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك ، فاصرفها عني وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دَما . فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخل عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى ، فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من الحواريين وكانوا اثنى عشر رجلاً : بُطْرُس ، ويَعْقُوب بن زَبْدِي ، ويُحَنّس أخو يعقوب ، وَأنْدَرَاوُس ، وفِيلِبّس ، وأَبْرَثَلْمَا ، وَمّتى ، وتُوماس ، ويعقوب بن حَلْقيا ، وتُدّاوس ، وفتاتيا ، ويُودُسُ زَكَرِيا يُوطا . قال ابن حميد : قال سلمة : قال ابن إسحاق : وكان فيهم فيما ذكر لي رجل اسمه سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلاً سوى عيسى جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى . قال : فلا أدري ما هو من هؤلاء الاثني عشر ، أم كان ثالث عشر ، فجحدوه حين أقرّوا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه . فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كان اثني عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر . حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني رجل كان نصرانيا فأسلم أن عيسى حين جاءه من الله إنّى رَافِعُكَ إليّ قال : يا معشر الحواريين : أيكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنة حتي يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني ؟ فقال سرجس : أنا يا روح الله قال : فاجلس في مجلسي . فجلس فيه ، ورُفع عيسى صلوات الله عليه ، فدخلوا عليه فأخذوه ، فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشُبّه لهم به . وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم فأحصوا عدتهم ، فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى فيما يرون وأصحابه وفقدوا رجلاً من العدّة ، فهو الذي اختلفوا فيه . وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس ركريايوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرّفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سأُقَبّله ، وهو الذي أُقَبّل فخذوه فلما دخلوا عليه ، وقد رُفع عيسى ، رأى سَرْجِس في صورة عيسى ، فلم يشكّ أنه هو عيسى ، فأكبّ عليه فقبله ، فأخذوه فصلبوه . ثم إن يُودُس ركَرِيايوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه ، وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه . وبعض النصارى يزعم أن يُودُوس زكريايوطا هو الذي شُبّه لهم فصلبوه ، وهو يقول : إني لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه والله أعلم أيّ ذلك كان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه : أيكم يَنتدب فيلقى عليه شبهي فيقتل ؟ فقال رجل من أصحابه : أنا يا نبيّ لله . فألقي عليه شبه فقُتل ، ورفع الله نبيه إليه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : شُبّهَ لَهُمْ قال : صلبوا رجلاً غير عيسى يحسبونه إياه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ فذكر مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صلبوا رجلاً شبهوه بعيسى يحسبونه إياه ، ورفع الله إليه عيسى عليه السلام حيا .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب أحد القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه ، من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم ، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك ، ولكن ليخزي الله بذلك اليهود وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروه ما أرادوا به من القتل ، ويبتلى به من أراد ابتلاءه من عباده في قيله في عيسى وصدق الخبر عن أمره . أو القول الذي رواه عبد العزيز عنه .
وإنما قلنا : ذلك أولى القولين بالصواب ، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين لو كانوا في حال ما رفع عيسى ، وألقى شبهه على من ألقى عليه شبهه ، كانوا قد عاينوا عيسى هو يرفع من بينهم ، وأثبتوا الذي ألقى عليه شبهه ، وعاينوه متحوّلاً في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضر منهم ، لم يخف ذلك من أمر عيسى ، وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم مع معاينتهم ذلك كله ، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى ، وأن عيسى رفع من بينهم حيا . وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم ، وقد سمعوا من عيسى مقالته : من يُلْقَى عليه شبهي ويكون رفيقي في الجنة ؟ إن كان قال لهم ذلك ، وسمعوا جواب مجيبه منهم : أنا ، وعاينوا تحوّل المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه . ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما وصف وهب بن منبه ، إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه حوّلهم الله جميعا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه ، فلم يثبتوا عيسى معرفة بعينه من غيره لتشابه صُوَر جميعهم ، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يرونه بصورة عيسى ويحسبونه إياه ، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك ، وظنّ الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود ، لأنهم لم يميزوا شخص عيسى من شخص غيره لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت ، فاتفقوا جميعهم أعني اليهود والنصارى من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى ، ولم يكن به ، ولكنه شبه لهم ، كما قال الله جلّ ثناؤه : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ . أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل ، عن وهب بن منبه ، أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت تفرّقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود ، وبقي عيسى ، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرّق القوم غير عيسى وغير الذي ألقى عليه شبهه ، ورُفع عيسى . فقُتل الذي تحوّل في صورة عيسى من أصحابه ، وظنّ أصحابه واليهود أن الذي قُتل وصلب هو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفاء أمر عيسى عليهم لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته كان بعد تفرّق أصحابه عنه ، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعي نفسه ويحزن لما قد ظنّ أنه نازل به من الموت ، فحكوا ما كان عندهم حقا ، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا ، فلم يستحقّ الذين حكوا ذلك من حوارييه أن يكونوا كذبة ، أو حكوا ما كان حقا عندهم في الظاهر وإن كان الأمر عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكَ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينا .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله . وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدّة من في البيت قبل دخولهم فيما ذكر فلما دخلوا عليهم ، فقدوا واحدا منهم ، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدّة التي كانوا قد أحصوها ، وقتلوا من قتلوا على شكّ منهم في أمر عيسى . وهذا التأويل على قول من قال : لم يفارق الحواريون عيسى حتى رُفع ودخل عليهم اليهود .
وأما تأويله على قول من قال : تفرّقوا عنه من الليل ، فإنه : وإن الذين اختلفوا في عيسى ، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدّة التي كانت فيه أم لا ؟ لفي شكّ منه ، يعني : من قتله ، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه ، فشكوا في الذي قتلوه هل هو عيسى أم لا من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه ، ولكنهم قالوا : قتلنا عيسى ، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة . يقول الله جلّ ثناؤه : ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني : أنهم قتلوا من قتلوه على شكّ منهم فيه واختلاف ، هل هو عيسى أم غيره ؟ من غير أن يكون لهم بمن قتلوه علم من هو ، هو عيسى أم هو غيره ؟ إلاّ اتّباعَ الظّنّ يعني جلّ ثناؤه : ما كان لهم بمن قتلوه من علم ، ولكنهم اتبعوا ظنهم ، فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى وأنه الذي يريدون قتله ، ولم يكن به . وَما قَتَلُوهُ يَقِينا يقول : وما قتلوا هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقينا أنه عيسى ، ولا أنه غيره ، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهة وهذا كقول الرجل للرجل : ما قتلت هذا الأمر علما وما قتلته يقينا ، إذا تكلم فيه بالظنّ على غير يقين علم فالهاء في قوله : وَما قَتَلُوهُ عائدة على الظنّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَما قَتَلُوهُ يَقِينا قال : يعني : لم يقتلوا ظنهم يقينا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن جويبر في قوله : وَما قَتَلُوهُ يَقِينا قال : ما قتلوا ظنّهم يقينا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَما قَتَلُوهُ يَقِينا : وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى ، بل رفعه الله إليه .
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون ، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، فهذه الطائفة التي قالت { إنا قتلنا المسيح } غير الذين نقضوا الميثاق في الطور ، وغير الذين اتخذوا العجل ، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله : { عيسى ابن مريم } وقوله عز وجل : { رسول الله } إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة ، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول ، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه ، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول ، كما أن قريشاً في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب ، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه ، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم ، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافاً شديداً أنا أختصر عيونه ، إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته ، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء ، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله ، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله ، وكانت بنو إسرائيل تطلبه ، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار ، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى ، فروي أن أحد الحواريين أرشي{[4363]} عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه ، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتاً بمرأى من بني إسرائيل فروي : أنهم عدوهم ثلاثة عشر ، وروي ثمانية عشر وحصروا ليلاً فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة ، ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك الرجل ، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب ، وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه : أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، وألقي عليه شبه عيسى ، ويروى أن شبه عيسى عليه السلام ألقي على الجماعة كلها ، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة ، فأخذوا واحداً ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الرويات التي ذكرتها ، فصلب ذلك الشخص ، وروي : أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى لما رأوه من نقصان العدد واختلاط الأمر فصلب ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب ، فهذا أيضاً يدل على أنه فرقهم وهو في البيت ، أو على أن الشبه ألقي على الكل ، وروي أن هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما المعنى { ولكن شبه لهم } أي شبه عليهم الملك الممخرق{[4364]} ، ليستديم ملكه ، وذلك أنه لما نقص واحد من الجماعة وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش بصلبه وفرق الناس عنه .
وقال : هذا عيسى قد صلب وانحل أمره ، وقوله تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه } يعني اختلاف المحاولين لأخذه ، لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد وتحدث برفع عيسى اضطربوا واختلفوا ، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف ، لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة ولا يقين أيهم هو .
قال القاضي - رحمه الله : الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصاً صلب ، وأما هل هو عيسى أم لا ؟ فليس من علم الحواس ، فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى ، ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به ، ثم استثنى اتباع الظن وهو استثناء متصل ، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد أنهما من معتقدات النفس ، وقد يقول الظان على طريق التجوز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه{[4365]} . وقوله تعالى : { وما قتلوه يقيناً } اختلف المتأولون في عود الضمير من { قتلوه } فقالت فرقة : هو عائد على الظن كما تقول : قتلت هذا الأمر علماً ، فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقيناً ، هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة ، وقال قوم : الضمير عائد على عيسى ، أخبر أنهم لم يقتلوه يقيناً فيصح لهم الإصفاق{[4366]} ، ويثبت نقل كافتهم ، ومضمن الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقيناً ولا شكاً ، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكاً فيه ، وقال قوم من أهل اللسان : الكلام تام في قوله { وما قتلوه } و { يقيناً } مصدر مؤكد للنفي في قوله { وما قتلوه } المعنى يخبركم يقيناً ، أو يقص عليكم يقيناً ، أو أيقنوا بذلك يقيناً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وبِقَوْلِهمْ أنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ"، ثم كذّبهم الله في قِيلهم، فقال: "وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ": وما قتلوا عيسى وما صلبوه، ولكن شبّه لهم.
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شُبّه لليهود في أمر عيسى؛ فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعا حُوّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يُلْقَى على بعضهم شبهه، فانتدب لذلك رجل، فأُلقي عليه شبه، فَقُتل ذلك الرجل ورُفع عيسى ابن مريم عليه السلام. "وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكَ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينا": وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدّة من في البيت قبل دخولهم فيما ذكر فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدا منهم، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شكّ منهم في أمر عيسى. وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رُفع ودخل عليهم اليهود.
وأما تأويله على قول من قال: تفرّقوا عنه من الليل، فإنه: وإن الذين اختلفوا في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدّة التي كانت فيه أم لا؟ لفي شكّ منه، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه هل هو عيسى أم لا من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا: قتلنا عيسى، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جلّ ثناؤه: "ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ": أنهم قتلوا من قتلوه على شكّ منهم فيه واختلاف، هل هو عيسى أم غيره؟ من غير أن يكون لهم بمن قتلوه علم من هو، هو عيسى أم هو غيره "إلاّ اتّباعَ الظّنّ": ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم، فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به. "وَما قَتَلُوهُ يَقِينا": وما قتلوا هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقينا أنه عيسى، ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهة وهذا كقول الرجل للرجل: ما قتلت هذا الأمر علما وما قتلته يقينا، إذا تكلم فيه بالظنّ على غير يقين علم فالهاء في قوله: وَما قَتَلُوهُ عائدة على الظنّ.
عن ابن عباس، قوله: "وَما قَتَلُوهُ يَقِينا "قال: يعني: لم يقتلوا ظنهم يقينا.
عن السديّ: وَما قَتَلُوهُ يَقِينا: وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى، "بل رفعه الله إليه".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقولهم إنا قتلنا المسيح} قيل: سمي المسيح: يعني ماسحا لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمة، فيبرأ، فسمي لذلك مسيحا وذلك الفعيل بمعنى الفاعل، والله أعلم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإن الذين اختلفوا فيه} أي في قتله وذلك أتهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه ألقي على وجهه ولم يلق على جسده شبه جسد عيسى فلما قتلوه ونظروا إليه قالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فاختلفوا فقال بعضهم هذا عيسى وقال بعضهم ليس بعيسى وهذا معنى قوله {لفي شك منه} أي من قتله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا: (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيماً لما أرادوا بمثله كقوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [الزخرف: 9]
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فهذه الطائفة التي قالت {إنا قتلنا المسيح} غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: {عيسى ابن مريم} وقوله عز وجل: {رسول الله} إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول، كما أن قريشاً في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافاً شديداً... إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} أي وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل، والضراوة بارتكاب الجرائم، واستهزاء بآيات الله ورسله. ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام واستهزائهم بدعوته. وهو أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله تعالى مدعيا للرسالة كقوله في رواية إنجيل يوحنا (3:17 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) ويجوز أن يكون قوله: (رسول الله) منصوبا على المدح أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم.
{وما قتلوه وما صلبوه} أي الحال أنهم ما قتلوه كما زعموا تبجحا بالجريمة وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس {ولكن شبه لهم} أي وقع لهم الشبهة أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} أي وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره أي في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض. فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان-كما يقول المنطق- لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل. والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك، وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر...
وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين. فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول إنه هو، وبعضهم يقول إنه غيره، وما لأحد منها علم يقيني بذلك وإنما يتبعن الظن. وقوله تعالى: {إلا اتباع الظن} استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له ...
{وما قتلوه يقينا} أي وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح لأنه ألقى عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل إن الضمير في قوله تعالى: {وما قتلوه يقينا} للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن وما قتلوا العلم يقينا وتثبتا به بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها. يقال قتلت علما وخبرا-كما في الأساس- إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب... أي أنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحوارييه (أو تلاميذه) وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم أنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له. ولكن بعضهم قال أن شبهه ألقى على من دلهم عليه، وبعضهم قال بل ألقى شبهه على جميع ما كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أيدي مريدي قتله فقتلوا آخر ظانين أنه هو.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون: (قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله)!
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها، وتقرير الحق فيها:
(وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه؛ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيمًا)..
إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط فيها اليهود -كما يخبط فيها النصارى بالظنون- فاليهود يقولون: إنهم قتلوه ويسخرون من قوله: إنه رسول الله، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية! والنصارى يقولون: إنه صلب ودفن، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام. و "التاريخ "يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب!
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين.. فلقد تتابعت الأحداث سراعا؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين.. إلا ما يقصه رب العالمين..
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته.. كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد.. وقد كتبت معها أناجيل كثيرة. ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد؛ واعتبرت رسمية، واعترف بها؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات!
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة: إنجيل برنابا. وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة، في قصة القتل والصلب، فيقول:
" ولما دنت الجنود مع يهوذا، من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير. فلذلك انسحب إلى البيت خائفا. وكان الأحد عشر نياما. فلما رأى الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل، سفراءه.. أن يأخذوا يسوع من العالم. فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد.. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع. وكان التلاميذ كلهم نياما. فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع. حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع. أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم. لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيدي معلمنا. أنسيتنا الآن؟.. إلخ".
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة -التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر- ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية.
(وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن).
(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه: هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين.
والمسيح كان لَقباً لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه: لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45)، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقباً له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب: مذمَّماً عصينا، وأمره أبينا. فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد.
وقوله: {رسول الله} إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ {رسول الله} على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم {يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون} [الحجر: 6] وقول أهل مدين لشعيب {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد} [هود: 87] فيكون نصب « رسول الله» على النعت للمسيح.
وقوله {وما قتلوه} الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات: إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.
وعطف {وما صلبوه} لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه، وقال تعالى: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا} [المائدة: 33]. والمشهور في الاستعمال: أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.
وجملة {ولكن شبَّه لهم} استدراك، والمستدرك هو ما أفاده {وما قتلوه} من كون هذا القول لا شبهة فيه. وأنَّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه.
وقوله: {شبّه لهم} يحتمل أن يكون معناه: أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: {شبِّه} فعلاً مبْنيّاً للمجهول، مشتقّاً من الشبه، وهو المماثلة في الصورة. وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه؛ فالتقدير: شبِّه مشبَّه فيكون « لهم» نائباً عن الفاعل. وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظنّ بكذا. والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال. ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خُيِّل إليك، واختُلِط على فلان. وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم.
أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم.
والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن: أنّ المسيح لم يُقتل، ولا صُلب، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل. وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ} في سورة آل عمران [55] وقوله: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه} يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح. والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ. فالمراد بالظنّ هنا: معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن {إنّ بعض الظنّ إثم} [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح: « إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث» فالاستثناء في قوله {إلاّ اتّباع الظنّ} مُنقطع...
يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله: {وما قتلوه وما صلبوه} ويجُوز أن يعطف على قوله: {مالهم به من علم}.
واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسمُ مصدر، والمصدر اليَقَن بِالتحريك، يقال: يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يُوقن إيقاناً، وهو الشائع.
وقوله {يقيناً} يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله: لأنّ مضمون: {وما قتلوه يقينا} بعد قوله: {وقولهم إنّا قتلنا المسيح} إلى قوله {وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم} يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون.
ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في {قتلوه}، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً، بقرينة قوله قبله {ومَا قتلوه وما صلبوه}، أي: هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته. وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم: قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها، وقولهم: قَتَل أرضاً عالِمُها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد يسأل السائل: لماذا ذكر نفي الصلب بعد نفي القتل مع أن نفي القتل يقتضي ألا يكون صلب، لأن الصلب لا يكون إلا لمقتول؟ والجواب عن ذلك أن هذا تأكيد في النفي ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صلب، فلابد من النص على نفي الصلب ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفي القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لا يكتفي فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفي الصلب فقط ما اقتضى نفي القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: (وقولهم إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله...) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح (عليه السلام)، وإِلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم...)
وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح (عليه السلام) كانوا هم أنفسهم في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: (وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن...).
وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح (عليه السلام) حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر كاليهود كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.
وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح (عليه السلام) حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.
أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح (عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره...؟!
ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).