ثم صرحوا فى نهاية المطاف بالسبب الحقيقى الذى حال بينهم وبين الإِيمان ، ألا وهو الحقد والحسد ، وإنكار أن يختص الله تعالى رسوله من بينهم بالرسالة ، فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ؟ . . . } .
والاستفهام للإِنكار والنفى . أى : يف يدعى محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد نزل عليه القرآن من بيننا ، ونحن السادة الأغنياء العظماء ، وهو دوننا فى ذلك ؟ إننا ننكر وننفى دعواه النبوة من بيننا .
قال صاحب الكشاف : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وينزل عليه الكتاب من بينهم ، كما قالوا : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلى به صدورهم من الحسد على ما أوتى من شرف النبوة من بينهم .
ولقد حكى القرآن أحقادهم هذه على النبى صلى الله عليه وسلم فى آيات كثيرة ورد عليها بما يبطلها ومن ذلك قوله - تعالى - :
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . . . } ولقد صرح أبو جهل بهذا الحسد للنبى صلى الله عليه وسلم فعندما سأله سائل ، أتظن محمدا على حق أم على باطل ؟ كان جوابه : إن محمد لعلى حق ولكن متى كنا لبنى هاشم تبعا . أى : متى كانت أسرتنا تابعة لبنى هاشم ! !
وفى رواية أنه قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسى رهان ، قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصرفه .
وقوله - سبحانه - : { بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } إضراب عن كلام يفهم من السياق . وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم من أذى .
أى : هؤلاء الجاحدون الحاقدون لم يقطعوا برأى فى شأنك - أيها الرسول الكريم - وفى شأن ما جئتهم به ، ولم يستندوا فى أقوالهم إلى دليل أو ما يشبه الدليل ، وإنما هم فى شك من هذا القرآن الذى أيدناك به ، بدليل أنك تراهم يصفونك تارة بالسحر ، وتارة بالكهانة ، وتارة بالشعر ، ولو عقلوا وأنصفوا لآمنوا بك وصدقوك .
وقوله - سبحانه - : { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } إضراب عن مجموع الكلامين السابقين المشتملين على الحسد والشك .
أى : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - من مسالكهم الخبيثة ، وأقوالهم الفاسدة . فإنهم ما فعلوا ذلك إلا أنهم لم يذوقوا عذابى بعد ، فإذا ذاقوه زال حسدهم وشكهم ، وتيقنوا بأنك على الحق المبين ، وهم على الباطل الذى لا يحوم حوله حق .
وفى التعبير بقوله { لما } إشارة إلى أن نزول العذاب هبم وتذويقهم له ، قريب للحصول .
وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] ليكون رسولاً :
( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .
وما كان في هذا من غرابة . ولكنه كان الحسد . الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، أنه حدث ، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي من الليل في بيته . فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً . ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض . لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك ! قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ? فقال : ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه ! فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهو الحسد كما نرى . يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال ! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى ما لا مطمع فيه لطامع . وهو السر في قولة من كانوا يقولون :
( أأنزل عليه الذكر من بيننا ? ) . .
وهم الذين كانوا يقولون : ( لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) . . يقصدون بالقريتين مكة والطائف ، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون ؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين ، كلما سمعوا أن نبياً جديداً قد أطل زمانه . والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله - على علم - نبيه محمداً [ صلى الله عليه وسلم ] وفتح له من أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين .
ويرد على تساؤلهم ذاك رداً تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد :
( بل هم في شك من ذكري . بل لما يذوقوا عذاب ) . .
إنهم يسألون : ( أأنزل عليه الذكر من بيننا ! ) . . وهم في شك من الذكر ذاته ، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله ؛ وإن كانوا يمارون في حقيقته ، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون .
ثم يضرب عن قولهم في الذكر ، وعن شكهم فيه ، ليستقبل بهم تهديداً بالعذاب ، ( بل لما يذوقوا عذاب ) . . وكأنما ليقول : إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب ؛ فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئاً ، لأنهم حينئذ سيعرفون !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هؤلاء المشركين من قريش : أأُنزل على محمد الذكر من بيننا فخُصّ به ، وليس بأشرف منا حسبا . وقوله : بَلْ هُمْ فِي شَكّ مِنْ ذِكرِي يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء المشركين أن لا يكونوا أهل علم بأن محمدا صادق ، ولكنهم في شكّ من وحينا إليه ، وفي هذا القرآن الذي أنزلناه إليه أنه من عندنا بَلْ لَمّا يَذُوقُوا عَذَابِ يقول بل لم ينزل بهم بأسنا ، فيذوقوا وبال تكذيبهم محمدا ، وشكهم في تنزيلنا هذا القرآن عليه ، ولو ذاقوا العذاب على ذلك علموا وأيقنوا حقيقة ما هم به مكذّبون ، حين لا ينفعهم علمهم أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العَزِيزِ الوَهّابِ يقول تعالى ذكره : أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك ، يعني مفاتيح رحمة ربك يا محمد ، العزيز في سلطانه ، الوهاب لمن يشاء من خلقه ، ما يشاء من مُلك وسلطان ونبوّة ، فيمنعوك يا محمد ، ما منّ الله به عليك من الكرامة ، وفضّلك به من الرسالة .
ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض ، ومضمن ذلك الإنكار : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } بمعنى نحن الأشراف الأعلام ، فلم خص هذا ؟ وكيف يصح هذا ؟ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل ، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم ، { بل هم في شك من ذكري } أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق ، ثم توعدهم بقوله : { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر ، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب .