ثم بين لهم - سبحانه - وجه الحق فى هذه الأصنام فقال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ . . } . أى : ما هذه الأصنام التى عبدتموها من دون الله ، أو توهمتم أنها تشفع لكم عنده - تعالى - . ما هى إلا أسماء محضة ، ليس فيها شىء أصلا من صفات الألوهية ، وأنتم وآباؤكم سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم ، دون أن يكون معكم على هذه التسمية شىء من الحجة أو الدليل أو البرهان . . .
فالمضير " هى " يعود إلى اللات والعزى ومناة وغيرها نم الآلهة الباطلة .
والمراد بقوله : { أَسْمَآءٌ } : أنها ليس لها من الألوهية التى أثبتوها لها سوى اسمها ، وأما معناها وحقيقتها فهى أبعد ما تكون عن ذلك . . .
وجملة " سميتموها " صفة للأسماء ، والهاء هى المفعول الثانى ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : إن هى إلا أسماء سميتموها الأصنام ، أى : سميتم بها الأصنام .
والمراد بالسلطان : الحجة والدليل ، والمراد بالإنزال : الإخبار بأنها آلهة و " من " مزيدة لتوكيد عدم الإنزال على سبيل القطع والبت .
أى : ما أخبر الله - تعالى - عنها بأنها آلهة ، بأى لون من ألوان الإخبار ، ولا توجد حجة من الحجج حتى ولو كانت واهية تشير إلى ألوهيتها .
ثم يهمل - سبحانه - خطابهم بعد ذلك ، ويذرهم فى أوهامهم يعمهون ، ويلتفت بالحديث عنهم حتى كأنهم لا وجود لهم ، فيقول : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس . . } .
أى : ما يتبع هؤلاء الجاهلون فى عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة ، إلا الظنون الكاذبة ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء ، وتقليد للآباء بدون تفكر أو تدبر . .
فالمراد بالظن هنا : الظن الباطل الذى يقوم على الاعتقاد الفاسد ، كما فى قوله - تعالى - : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } والتعريف فى قوله - سبحانه - : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } عوض عن المضاف إليه . و { مَا } موصولة والعائد محذوف . أى : والذى تهواه أنفسهم التى استحوذ عليها الشيطان . .
وجملة : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } حالية من فاعل " يتبعون " ، وجىء بها لزيادة التعجب من حالهم .
أى : هم ما يتبعون إلا الظنون وما تهواه أنفسهم المحجوبة عن الحق ، والحال أنه قد جاء إليهم ، ووصل إلى مسامعهم من ربهم ، ما يهديهم إلى الصواب لو كانوا يعقلون .
وأكد - سبحانه - هذه الجملة بلام القسم وقد ، لتأكد الخبر ، ولزيادة التعجب من أحوالهم التى بلغت الغاية فى الغرابة .
والتعبير بقوله : { جَآءَهُم } يشعر بأن الحق قد وصل إليهم بدون عناء منهم ، ولكنهم مع ذلك رفضوه وأعرضوا عنه .
والتعريف فى لفظ " الهدى " يدل على كماله وسموه . أى . ولقد جاءهم من ربهم الهدى الكامل الذى ينتهى بمن يتبعه إلى الفوز والسعادة .
والمراد به : ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من قرآن كريم ومن سنة مطهرة .
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع . ولا حجة فيها ولا دليل :
( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) !
هذه الأسماء . اللات . العزى . مناة . . وغيرها . وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة . وتسمية الملائكة إناثا . وتسمية الإناث بنات الله . . . كلها أسماء لا مدلول لها ، ولا حقيقة وراءها . ولم يجعل الله لكم حجة فيها . وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له . لأنه لا حقيقة له . وللحقيقة ثقل . وللحقيقة قوة . وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها . ضعيفة لا قوة لها . مهينة لا سلطان فيها .
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم ، ويترك خطابهم ، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم ، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) . . فلا حجة ولا علم ولا يقين . إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة ، والهوى يستمدون منه الدليل . والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى ؛ ولا بد فيها من اليقين القاطع والتجرد من الهوى والغرض . . وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة : ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . فانقطع العذر وبطل التعلل !
ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر ، ولن يجدي هدى ؛ لأن العلة هنا ليست خفاء الحق ، ولا ضعف الدليل . إنما هي الهوى الجامح الذي يريد ، ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد ! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى ، ولا يقنعها الدليل !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَآءٌ سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مّآ أَنَزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مّن رّبّهِمُ الْهُدَىَ } .
يقول تعالى ذكره : ما هذه الأسماء التي سميتموها وهي اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى ، إلاأسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أيها المشركون بالله ، وآباؤكم من قبلكم ، ما أنزل الله بها ، يعني بهذه الأسماء ، يقول : لم يبح الله ذلك لكم ، ولا أذن لكم به . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مِنْ سُلْطانٍ . . . إلى آخر الاَية .
وقوله : إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ يقول تعالى ذكره : ما يتبع هؤلاء المشركون في هذه الأسماء التي سموا بها آلهتهم إلا الظنّ بأنّ ما يقولون حقّ لا اليقين وَما تَهْوَى الأنْفُسُ يقول : وهوى أنفسهم ، لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله ، ولا عن رسول الله أخبرهم به ، وإنما اختراق من قِبل أنفسهم ، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه .
وقوله : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبّهِمْ الهُدَى يقول : ولقد جاء هؤلاء المشركين بالله من ربهم البيان مما هم منه على غير يقين ، وذلك تسميتهم اللات والعزّى ومناة الثالثة بهذه الأسماء وعبادتهم إياها . يقول : لقد جاءهم من ربهم الهدى في ذلك ، والبيان بالوحي الذي أوحيناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن عبادتها لا تنبغي ، وأنه لا تصلح العبادة إلا لله الواحد القهار . وقال ابن زيد في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبّهِمُ الهُدَى فما انتفعوا به .
ثم قال تعالى : { إن هي إلا أسماء } يعني أن هذه الأوصاف من أنها إناث وأنها تعبد آلهة ونحو هذا إلا أسماء ، أي تسميات اخترعتموها { أنتم وآباؤكم } لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهاناً ولا حجة ، وقرأ عيسى بن عمر : «سلُطان » بضم اللام ، وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش «إن تتبعون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضاً والجمهور : «يتبعون » بالياء على الحكاية عن الغائب و { الظن } : ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان وهوى الأنفس : هو إرادتها الملذة لها وإنما تجد هوى النفس أبداً فيترك الأفضل ، لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع .
وقوله تعالى : { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم ، لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا { الظن وما تهوى الأنفس } .