التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنۡ هِيَ إِلَّآ أَسۡمَآءٞ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰٓ} (23)

وجملة { إن هي إلا أسماء سميتموها } استئناف يكر بالإِبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإِظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم مُتَوَهم إنكار نسبتهم البنات لله إنه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً أو أن مصب الإِنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإِنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات . والضمير { هي } عائد إلى اللات والعزى ومناةَ . وَمَا صدق الضمير الذات والحقيقة ، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماءُ لا مسمّياتتٍ لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } [ يوسف : 40 ] .

والقصر إضافي ، أي هي أسماء لا حقائق عاقِلة متصرفة كما تزعمون ، وليس القصر حقيقياً لأنّ لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة .

وجملة { ما أنزل الله بها من سلطان } تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة .

وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه ، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحداً من رسله بأن للأصنام أرواحاً أو ملائكة ، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين .

والسلطان : الحجة ، وإنزالها من الله : الإِخبار بها ، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها ، فنفي إنزال الحجة بها من باب :

على لاحب لا يهتدي بمناره *** أي لا منار له فيهتدى به .

وعبر عن الإِخبار الموحَى به بفعل { أنزل } لأنه إخبار يَرد من العالم العلوي فشُبّه بإدلاء جسم من أعلى إلى أسفل .

وكذلك عُبّر عن إقامة دلائل الوجود بالإِنزال لأن النظر الفكري من خلق الله فشبه بالإِنزال كقوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ] ، فاستعمال { ما أنزل الله بها من سلطان } من استعمال اللفظ في معنييه المجازيَيْن . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ويعبدون من دون اللَّه ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم } في سورة الحج { 71 } ، وتقدم في سورة يوسف { 40 } قوله : { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان } وأكد نفي إنزال السلطان بحرف { من } الزائدة لتوكيد نفي الجنس .

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى } .

هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات ، وهو استئناف بياني فضمير { يتبعون } عائد إلى الذين كان الخطاب موجهاً إليهم .

أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيما يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها ، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأمانيَّ محبوبة لهم يعيشون في غرورها .

وجيء بالمضارع في { يتبعون } للدلالة على أنهم سيسمرُّون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل بدلالة لحن الخطاب أو فحواه .

وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم ، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقاً بالمغيبات كما في قوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } في سورة البقرة { 46 } ، وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } في سورة الأنعام { 116 } ، ومنه قول النبي : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وهو المراد هنا بقرينة عطف { وما تهوى الأنفس } عليه كما عطف { وإن هم إلا يخرصون } على نظيره في سورة الأنعام ، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالباً كما قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم } [ الحجرات : 12 ] .

وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حُسن أو ذم على حسب الأدلة ، ولذلك استنبط علماؤنا أن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة .

والمراد ب { ما تهوى الأنفس } : ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني ، دون الأدلة فإن كان الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حُبه إلا قبولاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمساجد » وقال : « وجعلت قُرّة عيني في الصلاة » . فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم .

ثم إن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاماً ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها ، فمنه محمود ومنه مذموم ، كما قال تعالى : { إن بعض الظن إثم } وقيل : الحزم سوء الظن بالناس .

والتعريف في { الأنفس } عوض عن المضاف إليه ، أي وما تهواه أنفسهم و { ما } موصولة .

وعطف { وما تهوى الأنفس } على الظن عطف العلة على المعلول ، أي الظن الذي يبعثهم على إتباعه أنه موافق لهداهم وإلفهم .

وجملة { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } حالية مقررة للتعجيب من حالهم ، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أرسل إليهم رسولاً بالهدى .

ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمراراً لا يظن مثله بعاقل .

والتعبير عن الجلالة بعنوان { ربهم } لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطاً بالعصيان والتمرد على خالقهم .

والتعريف في { الهدى } للدلالة على معنى الكمال ، أي الهدى الواضح .