ثم صرح - سبحانه - بأن مصير الخلق جميعا إليه فقال : { ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق } أى : ثم رد الله - تعالى - هؤلاء الذين توفتهم الملائكة إلى مالكهم الحق الذى لا يشوب ملكه باطل ليتولى حسابهم وجزاءهم على أعمالهم .
فالضمير { ردوا } يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم بأحد . والسر فى الإفراد أولا الجمع ثانياً وقوع التوفى على الأفراد والرد على الاجتماع . أى : ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله . قال - تعالى - { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } وقيل إن الضمير فى { ردوا } يعود على الملائكة . أى : ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضاً . وجملة { أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } تذييل ولذلك ابتدىء بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر .
أى : ألا له الحكم النافذ لا لغيره وهو - سبحانه - أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب .
وبذلك تكون هذه الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله ، ونفاذ إرادته ، ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا .
( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) . .
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة . . مولاهم الذي أنشأهم ، والذي أطلقهم للحياة ما شاء . . في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط . . ثم ردهم إليه عندما شاء ؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب :
( ألا له الحكم ، وهو أسرع الحاسبين ) . .
فهو وحده يحكم ، وهو وحده يحاسب . وهو لا يبطى ء في الحكم ، ولا يمهل في الجزاء . . ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري . فهو ليس متروكا ولو إلى مهلة في الحساب !
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب ، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم - في هذه الأرض - في أمر العباد . .
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة ، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم ، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه ؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس . .
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله ؛ فعلام يحاسبون في الآخرة ؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ؛ ويتحاكمون إليها ؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ؛ ولا يتحاكمون إليها ؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد . وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ، ويقيموا معاملاتهم - كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم - وفق شريعة الله في الدنيا ، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله . وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله - سبحانه - إلها في الأرض ؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة . وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله - أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر ، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وفي المعاملات والارتباطات - والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء . .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ رُدّوَاْ إِلَىَ اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ثم ردّت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحقّ . ألا لَهُ الحُكْمُ يقول : ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه . وَهُوَ أسْرَعُ الحاسِبِينَ يقول : وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس ، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها ، لأنه لا يحسب بعقد يَدٍ ، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية ، و لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ في السّمَوَاتِ ولا في الأَرْضِ ولا أصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ ولا أَكْبَرُ إلاّ في كِتَابٍ مُبِينٍ .
والضمير في { ردوا } عائد على المتقدم ذكرهم ، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام برد الكل ، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله { عليكم } تقريباً للموعظة من نفوس السامعين ، و { مولاهم } لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الرزّق والنصرة والمحاسبة والملك وغير ذلك ، وقوله { الحق } نعت ل { مولاهم } ، ومعناه الذي ليس بباطل ولا مجاز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش «الحقَّ » بالنصب ، وهو على المدح ، ويصح على المصدر ، { ألا له الحكم } ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع ، «الحكم » تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد و { أسرع الحاسبين } متوجه على أن الله عز وجل حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب غيره ، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال واحدة ؟ قال : كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا .
الضمير في قوله : { رُدّوا } عائد إلى { أحد } باعتبار تنكيره الصادق بكلّ أحد ، أي ثمّ يُردّ المتوفَّوْن إلى الله . والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة ، أي ردّوا إلى حكمه من نعيم وعذاب ، فليس في الضمير التفات .
والمولى هنا بمعنى السيد ، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد .
و { الحقّ } بالجرّ صفة ل { مولاهم } ، لما في { مولاهم } من معنى مالكهم ، أي مالكهم الحقّ الذي لا يشوب مِلكه باطلٌ يُوهن ملكه . وأصل الحقّ أنَّه الأمر الثابت فإن كلّ ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالاً تفاوتاً ، وذلك يُوهن المِلك ويضعف حقّيّته .
وجملة : { ألا لَهُ الحكمُ وهو أسرع الحاسبين } تذييل ولذلك ابتدىء بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر . والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع .
وقدّم المجرور في قوله { له الحكم } للاختصاص ، أي له لا لغيره ، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إمَّا حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره ، وإمَّا إضافي للردّ على المشركين ، أي ليس لأصنامكم حكم معه ، وإن كان المراد من الحكم الحساب ، أي الحكم المعهود يوم القيامة ، فالقصر حقيقي . وربَّما ترجَّح هذا الاحتمال بقوله عقبه : { وهو أسرع الحاسبين } أي ألاَ له الحساب ، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخَّر جزاؤه .
وهذا يتضمَّن وعداً ووعيداً لأنَّه لمَّا أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدّمة وكان المخاطبون فريقين : فريق صالح وفريق كافر ، وذكر أنَّهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة ؛ فالصالحون لا يحبّون المهلة والكافرون بعكس حالهم ، فعُجِّلت المسرّة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله : { وهو أسرع الحاسبين } .