مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ رُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۚ أَلَا لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَهُوَ أَسۡرَعُ ٱلۡحَٰسِبِينَ} (62)

أما قوله تعالى : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق } ففيه مباحث : الأول : قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضا أولئك الملائكة . وقيل : بل المردودون البشر ، يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله . واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية ، لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله ، والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة ، لكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ، بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسرا بكونه منقادا لحكم الله مطيعا لقضاء الله ، وما لم يكن حيا لم يصح هذا المعنى فيه ، فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت ، فنصيب البدن : فبقي أن تكون الحياة نصيبا للنفس والروح ولما قال تعالى : { ثم ردوا إلى الله } وثبت أن المرد وهو النفس والروح ، ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح ، وهو المطلوب .

واعلم أن قوله : { ثم ردوا إلى الله } مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن ، لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال : إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ، ونظيره قوله تعالى : { ارجعي إلى ربك } وقوله : { إليه مرجعكم جميعا } ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن . حجة ضعيفة بينا ضعفها في «الكتب العقلية » .

البحث الثاني : كلمة «إلى » تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه .

البحث الثالث : أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين : أحدهما المولى ، وقد عرفت أن لفظ المولى ، ولفظ الولي مشتقان من الولي : أي القرب ، وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } وأيضا المعتق يسمى بالمولى ، وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب ، وهو المراد من قوله : «سبقت رحمتي غضبي » وأيضا أضاف نفسه إلى العبد فقال : { مولاهم الحق } وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة ، وأيضا قال : مولاهم الحق ، والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة ، وانتقل إلى تصرفات المولى الحق .

والاسم الثاني الحق : واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى ، فقيل : الحق مصدر . وهو نقيض الباطل ، وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازا كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل ، ويمكن أن يقال : الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجبا لذاته ، فكان أحق الأشياء بكونه حقا هو هو ، واعلم أنه قرئ الحق بالنصب على المدح كقولك : الحمد لله الحق .

أما قوله : { ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { ألا له الحكم } معناه أنه لا حكم إلا لله . ويتأكد ذلك بقوله : { إن الحكم إلا الله ، وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله ، وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه ، فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة ، وإلا لما حصل ذلك .

المسألة الثانية : قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب ، إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم ، وهو أخذ الثواب ، وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله .

المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى . قال لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة . الآن : وقبل خلقه ، وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم ، فإنه تعالى كان قبل الخلق عالما بأنه سيوجد ، وبعد وجوده صار عالما بأنه قبل ذلك وجد ، فلم يلزم منه تغير العلم ، فلم لا يجوز مثله في الكلام . والله أعلم .

المسألة الرابعة : اختلفوا في كيفية هذا الحساب ، فمنهم من قال : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة ، لا يشغله كلام عن كلام ، ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحدا من العباد ، لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم ، وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار ، { ولا يكلمهم } ، وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب ، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين .

فالمقدمة الأولى : أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف عن صحة ما ذكرناه . ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى .

المقدمة الثانية : إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملكة الراسخة ، وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة ، بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة ، والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة .

المثال الأول : أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد ، فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة ، فهذا القدر من إلقاء الجسم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل ، وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال .

المثال الثاني : أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسى المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة ، فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملئ من الماء ، ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل ، ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر ، فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل ، إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة .

والمثال الثالث : إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر ، فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما ، لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز ، إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال .

فإذا عرفت هذه الأمثلة : وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول : لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير ، إلا ويفيد حصول أثر في النفس . إما في السعادة ، وإما في الشقاوة ، وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد ، فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة ، وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل ، فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان ، بمعنى أن تلك الآثار النفسانية ، إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح ، فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جاريا مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس ، وأما الحساب : فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج ، ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثرا في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس ، إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة ، ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة . فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض ، وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد ، وقدر آخر من الخلق الذميم ، فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد ، ومقدار ذلك الخلق الذميم ، وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم ، وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن ، فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب ، فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية ، والله العالم بحقائق الأمور .