المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (17)

17- أفَمَنْ كان يسير في حياته على بصيرة وهداية من ربه ، ويطلب الحق مخلصاً ، معه شاهد بالصدق من الله وهو القرآن ، وشاهد من قبله وهو كتاب موسى الذي أنزله الله قدوة يتبع ما جاء به ، ورحمة لمتبعيه ، كمن يسير في حياته على ضلال وعماية ، فلا يهتم إلا بمتاع الدنيا وزينتها ؟ ! أولئك الأولون هم الذين أنار الله بصائرهم ، يؤمنون بالنبي والكتاب الذي أنزل عليه . ومن يكفر به ممن تألبوا على الحق وتحزّبوا ضده ، فالنار موعده يوم القيامة . فلا تكن - أيها النبي - في شك من هذا القرآن ، إنه الحق النازل من عند ربك ، لا يأتيه الباطل ، ولكن أكثر الناس تضلّهم الشهوات ، فلا يؤمنون بما يجب الإيمان به .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (17)

وبعد أن بين - سبحانه - حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها ، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال - تعالى - :

{ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ . . . } .

قال صاحب المنار ما ملخصه : البينة ما تبين به الحق من كل شئ بحسبه كالبرهان فى العقليات والنصوص فى النقليات ، والخوارق فى الإِلهيات ، والتجارب فى الحسيات ، والشهادات فى القضائيات ، والاستقراء فى إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل قد جاءوا أقوامهم بالبينات وأن كل نبى منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى فى قصصهم فى هذه السورة وفى غيرها . .

وقوله : { وَيَتْلُوهُ . . . } من التلو بمعنى الاقتفاء والاتباع . يقال : تلا فلان فلانا إذا كان تابعا له ومقتفيا أثره . والمراد به هنا : التأييد والتقوية .

وللمفسرين أقوال متعددة فى المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } وبقوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } .

وفى مرجع الضمائر فى قوله " ربه - ويتلوه - ومنه " . . .

وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب أن يكون المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون .

وبقوله تعالى - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة له شاهدة بصدقه .

والضمير فى قوله من ربه يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { وَيَتْلُوهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، وفى قوله { منه } يعود إلى الله - تعالى - .

وعلى هذا القول يكون المعنى : أفمن كان على حجة واضحة من عند ربه تهديه إلى الحق والصواب فى كل أقواله وأفعاله ، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه ويؤيده ويقويه فى دعوته شاهد من ربه هو هذا القرآن الكريم المعجز لسائر البشر . .

أفمن كان هذا شأنه كمن ليس كذلك ؟

أو أفمن كان هذا شأنه كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ كلا إنهما لا يستويان .

وشهادة القرآن الكريم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، تتجلى فى إعجازه ، فقد تحدى النبى - صلى الله عليه وسلم - أعداءه أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع فصاحتهم وبلاغتهم ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .

وإنما جعلنا هذا القول أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الذى يتسق مع ما يفيده ظاهر الآية الكريمة ، ولأننا عندما نقرأ هذه السورة الكريمة وغيرها ، نجد الرسل الكرام كثيرا ما يؤكدون لأقوامهم - أنهم - أى الرسل على بينة من ربهم .

فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }

وهذا صالح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ . . . } وهذا شعيب - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً . . . } وهكذا نجد كل نبى يؤكد لقومه أنه جاءهم على بينة من ربه وما دام الأمر كذلك فسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل من جاء قومه على بينة من ربه ، والمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - يقتدرون به فى ذلك .

ويرى بعضهم أن المراد بالبينة القرآن الكريم ، وبالشاهد إعجازه ، وبالموصول مؤمنوا أهل الكتاب ، وأن الضمير فى قوله " ويتلوه - ومنه " يعودان إلى القرآن الكريم وإعجازه .

وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ، ويؤيده ويقويه - أى القرآن - شاهد منه على كونه من عند الله وهذا الشاهد هو إعجازه للبشر عن أن يأتوا بسورة من مثله .

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } : أصل البينة الدالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا . . والتنوين فيها للتعظيم ، أى : بيئة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن ، وباعتبار ذلك أو البرهان جاء الضمير الراجع إليها فى قوله { وَيَتْلُوهُ } أى يتبعه { شَاهِدٌ } عظيم يشهد بكونه من عند الله وهو إعجازه . .

ومعنى كون ذلك الشاهد تابعا له : أنه وصف له لا ينفك عنه . . وكذا الضمير فى " منه " - يعود إلى القرآن - وهو متعلق بمحذوف وقع صفته لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه . .

ومن المفسرين من يرى أن المراد بالبيئة القرآن الكريم - أيضا - ويرى أن المراد بالشاهد جبريل - عليه السلام - وأن قوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ } من التلاوة بمعى القراءة لا من التَّلْوِ بمعنى الاتباع .

وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ويتلوا هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد من الله - تعالى - هو جبريل - عليه السلام - .

فالضمير فى { وَيَتْلُوهُ } على هذا الرأى يعود إلى جبريل - عليه السلام - وفى " منه " يعود على الله تعالى - .

وهناك أقوال أخرى فى تفسير الآية الكريمة رأينا من الخير أن نضرب عنها صفحا لضعفها .

وقوله { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } دليل آخر على صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته . وهو معطوف على شاهد والضمير فى قوله { وَمِن قَبْلِهِ .

. . } يعود على شاهد - أيضا - .

وقوله { إِمَاماً وَرَحْمَةً } منصوبان على الحالية من قوله { كِتَابُ } .

والمعنى ومن قبل هذا الشاهد على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم أنزل الله - تعالى - على موسى كتابه التوراة مشتملا على صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - و { إِمَاماً } يؤتم به فى أمور الدين والدنيا ورحمة لبنى إسرائيل من العذاب إذا ما آمنوا به واتبعوا تعاليمه .

قال الشوكانى : وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا فى الوجود لكونه - أى الشاهد بمعنى المعجز - وصفا لازما غير مفارق ، فكان أغرق فى الوصفية من كتاب موسى .

وهى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بأنه رسول من الله - تعالى - .

واسم الإِشارة فى قوله { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعود إلى الموصوفين بأنهم على بينة من ربهم وهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون الصادقون .

أى : أولئك الموصوفون بأنهم على بينة من ربهم يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول صدق وبأن القرآن من عند الله - تعالى - وحده .

فالضمير فى قوله { به } يعود على كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ويدخل فى ذلك دخولا أوليا القرآن الكريم .

وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } بيان لسوء عاقبة الكافرين بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين به .

والأحزاب جمع حزب وهم الذين تخربوا وتجمعو من أهل مكة وغيرهم لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته .

أى : ومن يكفر بهذا القرآن وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات فإن نار جهنم هى المكان الذى ينتظره وينتظر كل متحزب ضد دعوته - صلى الله عليه وسلم - .

وفى جعل النار موعدا لهذا الكافر بالقرآن إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من ألوان العذاب الذى يجعله لا يموت فيها ولا يحيا .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالحض على النظر الصحيح الذى يؤدى إلى اليقين بن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذى لا يشو به باطل فقال - تعالى - : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } .

أى : فلا تك - أيها العاقل - فى شك من أن هذا القرآن من عند الله ومن أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الصدق ، بل عليك أن تعتقد اعتقادا جازما فى صحة ذلك ، لأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الثابت من عند ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك لا نطماس بصائرهم ، ولتقليدهم لآبائهم ، ولإِيثارهم الغى على الرشد .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد ميزت بين من كان على الحق ومن كان على الباطل وساقت حشودا من الأدلة الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، وعلى صحة ما عليه أتباعه ، وأمرتهم بالثبات على الحق الذى آمنوا به ، وتوعدت المتحزبين ضد دعوة الإِسلام بنار جهنم التى هى بئس القرار .

هذا ، وهذه الآية الكريمة هى من الآيات التى قيل بأنها مدنية ، وبمراجعتنا لتفسيرها لم نجد ما يؤيد بذلك ، بل الذى نراه أن السورة كلها مكية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فى المقدمة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (17)

1

بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله [ ص ] وما جاءه من الحق ؛ وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه ، وأنه مرسل من عنده ؛ كما يشهد له كتاب موسى من قبله . يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته . ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه . ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ؛ وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار ؛ وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل ، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله ؛ وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) . . وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ؛ تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء :

( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) .

( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ أولئك يعرضون على ربهم ؛ ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب . ما كانوا يستطيعون السمع ، وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .

( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )

( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) . .

إن طول هذه الجملة ، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها ، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا . . إن هذا كله يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ؛ ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية ؛ كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ؛ وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا .

إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ؛ ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها . والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون . يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ؛ بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . . إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا ، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله ، والدينونة للطاغوت من دون الله !

( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) . . وفي قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) . وفي عائد هذه الضمائر في : ( ربه )وفي ( يتلوه ) وفي ( منه ) . . وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ) هو رسول الله [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه )أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته . وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر . ( ومن قبله )- أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن ؛ " كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ؛ أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده .

والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ، من بينة يجدونها في أنفسهم ، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم ، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة . فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ . . وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها : ال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . وشعيب عليه السلام يقولها كذلك : ( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ، ورزقني منه رزقا ) . . فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ؛ ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا . . وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله ؛ مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم ؛ فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا .

ويكون المعنى الكلي للآية : أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . . حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه . وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني . وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم . وهو يصدق رسول الله [ ص ] بما تضمنه من التبشير به ، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله .

يقول : أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين ؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .

ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب ، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة . ويعرج على تثبيت الرسول - [ ص ] - والذين يؤمنون بما معه من الحق ؛ فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين ، وهم كثرة الناس في ذلك الحين :

( أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )إذا كان المقصود بقوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه )هو شخص رسول الله [ ص ] كما أسلفنا . . فإن أولئك " تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . . ولا إشكال هناك . فالضمير في قوله تعالى ( أولئك يؤمنون به )يعود على " شاهد " وهو القرآن . وكذلك الضمير في قوله تعالى ( ومن قبله )فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . . فلا إشكال في أن يقول : ( أولئك يؤمنون به )- أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول [ ص ] هو أول من آمن بما أنزل إليه ، ثم تبعه المؤمنون : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . . . )كما جاء في آية البقرة . . والآية هنا تشير إلى رسول الله [ ص ] وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . . وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ، ولا إشكال فيه .

( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) . .

وهو موعد لا يخلف ، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره !

( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وما شك رسول الله [ ص ] فيما أوحي إليه ، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت . وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .

وما أحوج طلائع البعث الإسلامي ؛ وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ؛ ويتآزر عليها الصد والإعراض ، والسخرية والاستهزاء ، والتعذيب والإيذاء ؛ والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ؛ وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية ؛ وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ؛ ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .

ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها ، وبكل إشارة ، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم :

( فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) . .

وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم ، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ؛ ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق :

( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )

إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . . لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله [ ص ] إلى البشرية كلها بهذا الدين ؛ فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين !

إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أولا تعترف . ولكنها تقيم الناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ؛ ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله . . ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه ؛ ويدينون له وحده . فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه ، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه . . ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد ، وبين الجاهلية والإسلام . وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام !

ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان . . وهذا بعض ما نعنيه حين نقول : ( إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة . ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ، بعيدا عن المعركة ، وبعيدا عن الحركة . . . ) .