{ وَإِن كُنتُنَّ } لا تردن ذلك ، وإنما { تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة } .
أى : وإنما تردن ثواب الله - تعالى - والبقاء مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار شظف الحياة على زينتها ، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا .
إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن { الله } - تعالى - { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } ، بسبب إيمانهن وإحسانهن { أَجْراً عَظِيماً } لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - .
وبهذا التأديب الحكيم ، والإِرشاد القويم ، أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يؤدب نساءه ، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن ، وأن يترك لهن حرية الاختيار .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الاَخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمّتّعْكُنّ يقول فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله : وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنِينَ وقوله : وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً يقول : وأطلقكنّ على ما أذن الله به ، وأدّب به عباده بقوله : إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ . وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يقول : وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما فإنّ اللّهَ أعَدّ للْمُحْسِناتِ مِنْكُنّ وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله أجْرا عَظِيما .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من عرض الدنيا ، إما زيادة في النفقة ، أو غير ذلك ، فاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فيما ذكر ، ثم أمره الله أن يخيرهنّ بين الصبر عليه ، والرضا بما قسم لهنّ ، والعمل بطاعة الله ، وبين أن يمتّعهنّ ويفارقهنّ إن لم يرضين بالذي يقسم لهن . وقيل : كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة غارتها . ذكر الرواية بقول من قال : كان ذلك من أجل شيء من النفقة وغيرها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات ، فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر : إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتكلم ويرفع صوته ، حتى أذن له . قال : فجعلت أقول في نفسي : أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، أو كلمة نحوها ؟ فقلت : يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة ، فقال : «ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ » قال : فأتى حفصة ، فقال : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ما كانت لك من حاجة فإليّ ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يكلمهنّ ، فقال لعائشة : أيغرّك أنك امرأة حسناء ، وأن زوجك يحبك ؟ لتنتهينّ ، أو لينزلنّ فيك القرآن قال : فقالت أمّ سلمة : يا ابن الخطّاب ، أو مَا بقي لك إلاّ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه ، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها قال : ونزل القرآن يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَهَا . . . إلى قوله أجْرا عَظِيما قال : فبدأ بعائشة فخيرها ، وقرأ عليها القرآن ، فقالت : هل بدأت بأحد من نسائك قبلي ؟ قال : «لا » ، قالت : فإني أختار الله ورسوله ، والدار الاَخرة ، ولا تخبرهنّ بذلك قال : ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن ، ويخبرهن بما صنعت عائشة ، فتتابعن على ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً . . . إلى قوله : أجْرا عَظِيما قال : قال الحسن وقتادة : خيرهنّ بين الدنيا والاَخرة والجنة والنار في شيء كنّ أردنه من الدنيا . وقال عكرمة في غيرة : كانت غارتها عائشة ، وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة ، خمس من قُرَيش : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ، وكانت تحته صفية ابنة حُييّ الخَيبرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وبدأ بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة ، رُئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتابعن كلهنّ على ذلك واخترن الله ورسوله والدار الاَخرة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة ، في قول الله يا أيّها النَبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها . . . إلى قوله عَظِيما قالا : أمره الله أن يخيرهنّ بين الدنيا والاَخرة والجنة والنار قال قتادة : وهي غيرة من عائشة في شيء أرادته من الدنيا ، وكان تحته تسع نسوة : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وجُوَيرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وصفية بنت حُييّ بن أخطب فبدأ بعائشة ، وكانت أحبهنّ إليه فلما اختارت الله ورسوله والدار الاَخرة ، رُئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن على ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، وهو قول قتادة قال : لما اختَرْنَ الله ورسوله شكرهنّ الله على ذلك فقال لا يحلّ لكَ النساءُ مِنْ بَعدُ وَلاَ أنْ تَبَدّلَ بهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجبكَ حُسنُهنّ فقصره الله عليهنّ ، وهنّ التسع اللاتي اخترن الله ورسوله . ذكر من قال ذلك من أجل الغيرة :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنّ ، وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ . . . الاَية ، قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فهجرهنّ شهرا ، نزل التخيير من الله له فيهنّ يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فقرأ حتى بلغ وَلا تبَرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فخيرهنّ بين أن يخترن أن يخلى سبيلهنّ ويسرّحهنّ ، وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهنّ أمّهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهنّ ، لمن وهب نفسه له حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ، ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ، ولا يحزنّ ، ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهنّ ، إيثار بعضهنّ على بعض ، أدنى أن يرضين قال : ومن ابتغيت ممن عزلت من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهنّ بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهنّ ، فاخترن الله ورسوله ، إلاّ امرأة واحدة بدوية ذهبت وكان على ذلك ، وقد شرط له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهنّ حتى لقي الله .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي أُرِيدُ أنْ أذْكُرَ لَكِ أمْرا فَلا تَقْضِي فِيهِ شَيْئا حتى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ » قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها ، فقالت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : فقرأ عليهنّ يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُردْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها . . . إلى آخر الاَية قالت : قلت : بل نختار الله ورسوله قالت : ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة ، فقال : «يا عائِشَةُ إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِي فِيهِ بشَيْءٍ حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ ، أبي بَكْر وأُمّ رُومانَ » فقالت : يا رسول الله وما هو ؟ قال : «قال الله يا أيّها النّبِي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها إلى عَظِيما ، فقلت : إني أريد الله ورسوله ، والدار الاَخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال : «إن عائشة قالت كذا » ، فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى نسائه أُمر أن يخيرهنّ ، فدخل عليّ فقال : «سأذكر لَكِ أمْرا وَلا تَعْجَلِي حتى تَسْتَشِيرِي أباكِ » ، فقلت : وما هو يا نبيّ الله ؟ قال : «إنّي أُمِرْتُ أنْ أُخَيّرَكُنّ » ، وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الاَيتين قالت : قلت : وما الذي تقول ؟ لا تعجلي حتى تستشيري أباك ، فإني أختار الله ورسوله فسُرّ بذلك ، وعرض على نسائه ، فتتابعن كلهنّ ، فاخترن الله ورسوله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني موسى بن عليّ ، ويونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه ، بدأني ، فقال : «إنّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْرا ، فَلا علَيْكِ أنْ لا تَعْجَلِي حتى تَسْتأْمِرِي أبَوَيْكِ » قالت : قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت : ثم تلا هذه الاَية : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لاِءَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أمَتّعْكُنّ وأُسَرّحْكُنّ سَرَاحا جَمِيلاً قالت : فقلت : ففي أيّ هذا استأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله ، والدار الاَخرة قالت عائشة : ثم فعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت ، فلم يكن ذلك حين قاله لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاخترنه طلاقا من أجل أنهنّ اخترنه .
وقوله تعالى : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا } أي إن كانت عظم همتكن ومطلبكن الدنيا أي التعمق فيها والنيل من نعيمها . وزينة الدنيا : المال والبنون . { فتعالين } دعاء ، و { أمتعكن } معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله تعالى له في قوله { ومتعوهن }{[9499]} [ البقرة : 236 ] ، وأكثر الناس على أنها من المندوب إليه ، وقالت فرقة هي واجبة ، والسراح الجميل يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المعتقد وحسن العشرة وجميل الثناء وإن كان الطلاق باتاً و { أعد } معناه يسر وهيأ و «المحسنات » الطائعات لله والرسول .
قال الفقيه الإمام القاضي : وأزواج النبي صلى اللواتي فيهن تسع ، خمس من قريش ، عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان{[9500]} ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية{[9501]} ، وأربع من غير قريش ، ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وزينب بنت جحش الأسدية{[9502]} ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية{[9503]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من إيلائه الشهر ونزلت عليه هذه الآية بدأ بعائشة وقال : «يا عائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » ثم تلا عليها الآية ، فقالت له : وفي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، قالت : وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله{[9504]} رضي الله عنهن .