108- لعلكم تريدون باقتراحكم معجزات معينة على رسولكم - محمد - أن تحاكوا بني إسرائيل المعاصرين لموسى ، إذ طلبوا إليه معجزات خاصة . إن اقتراحكم هذا ليخفي وراءه العناد والجنوح إلى الكفر ، كما كان يخفي ذلك اقتراح بني إسرائيل على رسولهم . ومن يؤثر العناد والكفر على الإخلاص للحق والإيمان ، فقد حاد عن الطريق السوي المستقيم .
ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود ، تثبيتاً لقلوبهم ، وتقوية لإيمانهم ، فقال تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
والمعنى : لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم مقترحات تتنافى مع الإِيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالبينات - مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقال له : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } وقالوا له : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإِيمان ، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلى الله عليه وسلم .
والاستفهام في الآية الكريمة للإِنكار ، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم ، إذ جعل محط الإِنكار إرادتهم للسؤال ، وفي النهي عن إرادة الشيء ، نهى عن فعله بأبلغ عبارة .
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ }
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثني يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجّرْ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك فأنزل الله في ذلك من قولهم : { أمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } الآية . وقال آخرون بما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } وكان موسى يُسأل فقيل له : أرِنا الله جَهْرَةً .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة ، فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة . وقال آخرون بما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة . فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهبا ، قال : «نَعَمْ ، وَهُوَ لَكُمْ كمائِدَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ كَفَرْتُمْ » . فأبوا ورجعوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : «نَعَمْ ، وَهُوَ لَكُمْ كالمَائِدَةِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إنْ كَفَرَتُمْ . فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : { أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } أن يريهم الله جهرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله ،
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قال رجل : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ لا نَبْغِيها ما أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرَائِيلَ فقال النبيّ : كانت بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا فَعَلَ أحَدُهُمُ الخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً على بابِهِ وَكَفّارَتَها ، فإنْ كَفّرَها كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الدّنْيا ، وإنْ لَمْ يُكَفّرْهَا كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الاَخِرَةِ . وَقَدْ أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرا مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرائِيلَ ، قالَ : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما . قال : وقال : «الصّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالجُمَعَةُ إلى الجُمُعَةِ كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ » . وقال : «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فإنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أمْثَالِهَا ، وَلاَ يَهْلِكُ عَلَى اللّهِ إلا هالِكٌ » . فأنزل الله : أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ .
واختلف أهل العربية في معنى أمْ التي في قوله : أمْ تُرِيدُونَ .
فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام ، وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم ؟ وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، كأنك تميل بها إلى أوله كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء ، ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي .
قال : وليس قوله : أَمْ تُرِيدُونَ على الشك ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل :
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظّلامِ مِنَ الرّبابِ خيَالاَ
وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : أمْ تُرِيدُونَ استفهاما على كلام قد سبقه ، كما قال جل ثناؤه : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبّ العالَمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فجاءت «أم » وليس قبلها استفهام . فكان ذلك عنده دليلاً على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه .
وقال قائل هذه المقالة : «أم » في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين ، إحداهما : أن تعرّف معنى «أيّ » ، والأخرى أن يستفهم بها ، ويكون على جهة النسق ، والذي ينوي به الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام ، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت لم يكن إلا بالألف أو ب«هَلْ » . قال : وإن شئت قلت في قوله : أمْ تُرِيدُونَ قبله استفهام ، فردّ عليه وهو في قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الاَثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم ؟ وإنما جاز أن يستفهم القوم ب«أَمْ » وإن كانت «أم » أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدّم ما تقدّمها من الكلام لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام ، ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبّ العالَمِين أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ . وقد تكون «أم » بمعنى «بل » إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه «أيّ » ، فيقولون : هل لك قِبَلَنا حق ، أم أنت رجل معروف بالظلم ؟ وقال الشاعر :
فَوَاللّهِ ما أدْرِي أسَلْمَى تَقوّلَتْ أمِ القَوْم أمْ كُلّ إليّ حَبِيبُ
وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن «أم » في قوله : أمْ تُرِيدُونَ استفهام مستقبل منقطع من الكلام يميل بها إلى أوله أن الأول خبر والثاني استفهام ، والاستفهام لا يكون في الخبر ، والخبر لا يكون في الاستفهام ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضيّ الخبر ، فاستفهم .
فإذا كان معنى «أم » ما وصفنا ، فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم ، فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه ، أو أن تهلكوا ، إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك ، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم ، فلما أعطيت كفرت ، فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَمَنْ يَتَبَدّلِ ومن يستبدل الكفر ويعني بالكفر : الجحود بالله وبآياته بالإيمان ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به . وقد قيل عنى بالكفر في هذا الموضع الشدة وبالإيمان الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني الكفر ، ولا الرخاء في معنى الإيمان ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشدّة في هذا الموضع وبتأويله الإيمان في معنى الرخاء ما أعدّ الله للكفار في الاَخرة من الشدائد ، وما أعدّ الله لأهل الإيمان فيها من النعيم ، فيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية : { وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بِالإيمَانِ }يقول : يتبدّل الشدّة بالرخاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية بمثله .
وفي قوله : { وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ } دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الاَيات من قوله : { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا } خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سرّ به اليهود وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، فكرهه الله لهم . فعاتبهم على ذلك ، وأعلمهم أن اليهود أهل غشّ لهم وحسد وبغي ، وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل ، ونهاهم أن ينتصحوهم ، وأخبرهم أن من ارتدّ منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ .
أما قوله : فَقَدْ ضَلّ فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل الضلال عن الشيء : الذهاب عند والحَيْد . ثم يستعمل في الشيء الهالك والشيء الذي لا يؤبه له ، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : ضلّ بن ضلّ ، وقلّ بن قلّ كقول الأخطل في الشيء الهالك :
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأتيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالاَ
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه .
وأما تأويل قوله : { سَوَاءَ السّبِيلِ } فإنه يعني بالسواء : القصد والمنهج ، وأصل السواء : الوسط ، ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : «ما زلت أكتب حتى انقطع سَوَائي » ، يعني وسطي . وقال حسان بن ثابت :
يا وَيْحَ أنْصَار النّبِيّ وَنَسْلِه ِبَعدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
يعني بالسواء الوسط . والعرب تقول : هو في سواء السبيل ، يعني في مستوى السبيل . وسواءُ الأرض مستواها عندهم ، وأما السبيل فإنها الطريق المسبول ، صُرف من مسبول إلى سبيل .
فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر فيرتدّ عن دينه ، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول . وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق ، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه ، وسبيلاً يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلاً لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم ، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها ، والوصول إلى الموضع الذي أمّه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عمّا أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه ، مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل ، الذي لا يزداد وُغولاً في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بُعْدا ، وعن المكان الذي أَمّهُ وأراده نَأْيا . وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواءها ، هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } أم معادلة للهمزة في { ألم تعلم } أي : ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد ، أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام . أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة به وترك الاقتراح عليه . قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء . وقيل : هي المشركين لما قالوا { لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } ومن ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها ، فقد ضل الطريق المستقيم حتى وقع في الكفر بعد الإيمان . ومعنى الآية لا تقترحوا فتضلوا وسط السبيل ، ويؤدي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد وتبديل الكفر بالإيمان . وقرئ " يبدل " من أبدل .
{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } ( 108 )
وقوله تعالى : { أم تريدون } : قالت فرقة : { أم } رد على الاستفهام الأول ، فهي معادلته( {[1101]} ) .
وقالت فرقة { أم } استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون ، وهذا موجود في كلام العرب .
وقالت فرقة : { أم } هنا بمعنى بل وألف الاستفهام ، قال مكي وغيره : وهذا يضعف لأن «أم » لا تقع بمعنى بل إلا اعترض المتكلم شك فيما يورده .
قال القاضي أبو محمد : وليس كما قال مكي رحمه الله ، لأن «بل » قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه ، وإنا يلزم ما قال على أحد معنيي «بل » وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى ، ونعم ما قال سيبويه : بل هي لترك كلام وأخذ في غيره . ( {[1102]} )
وقال أبو العالية( {[1103]} ) : إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل . وتلا : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً }( {[1104]} ) [ النساء : 110 ] .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم . ( {[1105]} )
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك ، وقيل : إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة ، وقيل : سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً ، وقال مجاهد : سألوه أن يرد الصفا ذهباً( {[1106]} ) ، فقال لهم : خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل( {[1107]} ) ، فأبوا ونكصوا .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم ، و { كما سئلَ موسى } عليه السلام هو أن يرى الله جهرة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سِيل » بكسر السين وياء وهي لغة ، يقال : سلت أسال( {[1108]} ) ، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء ، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين ، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل ، وقال أبو العالية : «الكفر هنا الشدة ، والإيمان الرخاء » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، إلا أن يريدهما مستعارتين ، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم ، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به ، و { ضل } أخطأ الطريق ، و «السواء » من كل شيء الوسط والمعظم ، ومنه قوله تعالى { في سواء الجحيم }( {[1109]} ) [ الصافات : 55 ] .
وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سوائي ، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره
يا ويح أنصار النبيِّ ورهطِهِ . . . بَعْدَ المغيَّبِ في سواءِ الملحدِ
وقال أبو عبيد : هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه ، و { السبيل } عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده ، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها .
( أم ) حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية فإذا عطفت أحد مفرديْنِ مستفهماً عن تعيين أحدهما استفهاماً حقيقياً أو مسوَّى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى ( أو ) العاطفة ويسميها النحاة متصلة ، وإذا وقعت عاطفة جملةً دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين . وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع ( أم ) بعدهما كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير ، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقريرالذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون ( أم ) هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم .
وقد جوز القزويني في « الكشف على الكشاف » كون ( أم ) هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لا يساعد استعمال الكلام العربي ، وأفرط عبد الحكيم في « حاشية البيضاوي » فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام .
وقوله : { تريدون } خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله : { رسولكم } وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد ( أم ) المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب .
وقوله : { تريدون } يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبيء صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { كما سئل موسى } تشبيهٌ وجهُه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيراً من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] أو من العجرفة كقولهم : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك . ويجوز كونه راجعاً إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم { ما لونها } [ البقرة : 69 ] و { ماهي } [ البقرة : 7 ] .
قال الفخر : إن المسلمين كانوا يسألون النبيء صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى اهـ .
وقد ذكر غيره أسباباً أخرى للنزول ، منها : أن المسلمين سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة ، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله : { تريدون } قصداً للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه . والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها .
وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى ، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث « الصحيحين » : " فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفراً شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيَ زوجةُ ثابتِ بن قيس : « إني أكره الكفر » تريد الزنا ، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفراً وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى . وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عُموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية ، وقول النابغة :
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تُلِمُّه *** على شعَث أيُّ الرجال المهذب
والمؤكد بجملة : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } هو مفهوم جملة { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة . والقول في تعدية فعل { يتبدل } مضى عند قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [ البقرة : 61 ] .
وقد جعل قوله : { فقد ضل } جواباً لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتباً على الشرط ولا يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلاً ماضياً مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضياً لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى إنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو : { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } [ طه : 81 ] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضياً فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل : إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضي بخلافه مع قد فكثير في القرآن .
وقد يجعلون الجزاء ماضياً مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له{[155]} ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية .
والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس :
غَشَّيْتُه وهو في جَأَوَاءَ باسلة*** عَضْبَاً أصاب سواءَ الرأس فانفلقا
ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم} يعني... تريدون أن تسألوا محمدا أن يريكم ربكم جهرة.
{كما سئل موسى من قبل} محمد، يعني: كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {أرنا الله جهرة}. {ومن يتبدل}: من يشتر {الكفر بالإيمان}: اليهود، {فقد ضل سواء السبيل}: قد أخطأ قصد طريق الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية؛
فقال بعضهم:... عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه، وفجّرْ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك، فأنزل الله في ذلك من قولهم...الآية.
وقال آخرون... عن قتادة قوله: {أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} وكان موسى يُسأل فقيل له: أرِنا الله جَهْرَةً.
و... عن السدي [مثله مع زيادة] فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.
و... عن مجاهد... فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهبا، قال: «نَعَمْ، وَهُوَ لَكُمْ كمائِدَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ كَفَرْتُمْ». فأبوا ورجعوا. وقال آخرون... عن أبي العالية، قال: قال رجل: يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمّ لا نَبْغِيها، ما أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرَائِيلَ، فقال النبيّ: كانت بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا فَعَلَ أحَدُهُمُ الخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً على بابِهِ وَكَفّارَتَها، فإنْ كَفّرَها كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الدّنْيا، وإنْ لَمْ يُكَفّرْهَا كانَتْ لَهُ خِزْيا فِي الاَخِرَةِ. وَقَدْ أعْطاكُمُ اللّهُ خَيْرا مِمّا أعْطَى بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ:"وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما". قال: وقال: «الصّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالجُمَعَةُ إلى الجُمُعَةِ كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ». وقال: «مَنْ هَمّ بِحَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فإنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أمْثَالِهَا، وَلاَ يَهْلِكُ عَلَى اللّهِ إلا هالِكٌ». فأنزل الله: أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ.
واختلف أهل العربية في معنى "أمْ "التي في قوله: {أمْ تُرِيدُونَ}... والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الاَثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟... فإذا كان معنى «أم» ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا، إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها.
{وَمَنْ يَتَبَدّلِ}: ومن يستبدل الكفر، ويعني بالكفر: الجحود بالله وبآياته بالإيمان، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به...
وفي قوله: {وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بالإيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ} دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الآيات من قوله: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا} خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سرّ به اليهود وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود أهل غشّ لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتدّ منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل...
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ": فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.
وأما تأويل قوله: {سَوَاءَ السّبِيلِ} فإنه يعني بالسواء: القصد والمنهج، وأصل السواء: الوسط... والعرب تقول: هو في سواء السبيل، يعني في مستوى السبيل. وسواءُ الأرض مستواها عندهم، وأما السبيل فإنها الطريق المسبول، صُرف من مسبول إلى سبيل.
فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر فيرتدّ عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول. وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلاً يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلاً لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمّه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عمّا أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه، مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وُغولاً في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بُعْدا، وعن المكان الذي أَمّهُ وأراده نَأْيا. وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواءها، هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: "اهْدِنا الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِمْ".
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والسبيل والطريق والمذهب نظائر، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها والتعلق بينهما أنه لما دل الله بما تقدم من الآيات على تدبير الله لهم فيما يأتي به من الآيات وما ينسخه فكأنه قال: أم لا ترضون بذلك فتخيروا الآيات وتسألوا المحالات "كما سئل موسى "لأن الله تعالى إنما يأتي بالآيات على ما يعلم فيها من المصلحة، فإذا أتى بآية تقوم بها الحجة فليس لأحد الاعتراض عليها، ولا له اقتراح غيرها. لأنه تعنت إذ قد صح البرهان بها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنَّ بني إسرائيل آذَوْا موسى عليه السلام، فنُهِيَ المسلمون عن فِعْل ما أسلفوه، وأُمِروا بمراعاة أن حشمة الرسول صلى الله عليه وسلم بغاية ما يتسع في الإمكان. فكانوا بحضرته كأنَّ على رؤوسهم الطير. قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وحسنُ الأدب -في الظاهر- عنوانُ حسن الأدب مع الله في الباطن...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
وذلك أن السؤال بعد قيام البراهين كفر، ولذلك قال {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} قصده ووسطه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {السبيل} عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى، كنى عنها بالسبيل، وجعل من حاد عنها: كالضال عن الطريق، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان، وأخرج ذلك في صورة شرطية، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيراً عن ذلك، وتبعيداً منه.
فوبخهم أولاً على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله، وخاطبهم بذلك،
ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية. وإن مثل هذا ينبغي أن لا يقع، لأنه ضلال عن المنهج القويم، فصار صدر الآية إنكاراً وتوبيخاً، وعجزها تكفيراً وضلالاً. وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة.
ولهذا جاء في الصحيح:"إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته". ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال
وفي صحيح مسلم: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا. ثم قال، عليه السلام: "لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم". ثم قال:"ذروني ما تركتكم "الحديث.
وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته وعظيم مملكته وما أظهر لذاته المقدس من العظم بتكرير اسمه العلَم وإثبات أن ما سواه عدم فتأهلت القلوب للوعظ صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد فقال:
{أم} أي أتريدون أن تردوا أمر خالقكم في النسخ أم {تريدون أن} تتخذوا من دونه إلهاً لا يقدر على شيء بأن {تسألوا رسولكم} أن يجعل لكم إلهاً غيره {كما سئل موسى} ذلك.
ولما كان سؤالهم ذلك في زمن يسير أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل هذا الزمان
و "الإرادة "في الخلق نزوع النفس لباد تستقبله -وعبر بالمضارع استجلاباً لمن زل بسؤال شيء من ذلك إلى الرجوع بالتوبة ليزول عنه الاستمرار فيزول الضلال
{فقد ضل سواء السبيل} أي عدله ووسطه فلم يهتد إليه وإن كان في بينات منه، فإن من حاد عن السواء أوشك أن يبعد بعداً لا سلامة معه وفيه إشعار بأن الخطاب للذين آمنوا، لأن المؤمنين المعرفين بالوصف لا يتبدل أحوالهم من إيمان الكفر، لأن أحداً لا يرتد عن دينه بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه
{فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256] {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى}؛ [لقمان: 22] وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً بعد أن أعطاكموه" فبذلك يتضح مواقع خطاب القرآن مع المترتبين في أسنان القلوب بحسب الحظ من الإيمان والإسلام والإحسان -
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(الأستاذ الإمام): إذا وازنا بين سياق آية {ما ننسخ} وآية {وإذا بدلنا آية مكان آية} نجد أن الأولى ختمت بقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}، والثانية بقوله {والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات. فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية الثانية يقتضي أن يراد بالآيات فيها آيات الأحكام.
وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضع الأحكام ونسخها وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة فلو قال {ألم تعلم أن الله عليم حكيم} لكان لنا أن نقول إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة.
وقد تحير العلماء في فهم الإنساء على الوجه الذي ذكروه حتى قال بعضه إن معنى (ننسها) نتركها على ما هي عليه من غير نسخ وأنت ترى أن هذا وإن صح لغة لا يلتئم مع تفسيرهم إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة
(قال) والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي {ما ننسخ من آية} نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أن نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك. ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه.
والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء وسميت جمل القرآن آيات أنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل، من قبيل تسمية الخاص باسم العام. ولقد كان من يهود من يشكك في رسالته عليه السلام بزعمهم أن النبوة محتكرة لشعب إسرائيل، ولقد تقدمت الآيات في تفنيد زعمهم هذا وقالوا {لولا أوتي مثلما أوتي موسى} أي من الآيات، فرد الله تعالى عليهم في مواضع منها قوله عز وجل بعد حكاية قولهم هذا
{أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} الخ ومنها هذه الآيات والخطاب فيها للمؤمنين الذين كان اليهود يريدون تشكيكهم كأنه يقول إن قدرة الله تعالى ليست محدودة ولا مقيدة بنوع مخصوص من الآيات أو بآحاد منها لا نتناول غيرها، وليست الحجة محصورة في الآيات السابقة لا تتعداها، بل الله قادر على أن يأتي بخير من الآيات التي أعطاها موسى وبمثلها، فإنه لا يعجز قدرته شيء، ولا يخرج عن ملكه شيء، كما أن رحمته ليست محصورة في شعب واحد فيخصه بالنبوة، ويحصر فيه هداية الرسالة، كلا إن رحمته وسعت كل شيء، كما أن قدرته تصرف بكل شيء من ملك السموات والأرض الذي لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فيه منازع، فيكون وليا ونصيرا لمن كفر بنعمه وانحرف عن سننه.
انظر كيف أسفرت البلاغة عن وجهها في هذا المقام فظهر أن ذكر القدرة وسعة الملك إنما يناسب الآيات بمعنى الدلائل دون معنى الأحكام الشرعية والأقوال الدالة عليها من حيث هي دالة عليها لا من حيث هي دالة على النبوة – ويزيد هذا سفورا ووضوحا قوله عقبه {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل؟} فقد كان بنو إسرائيل لم يكتفوا بما أعطي موسى من الآيات وتجرؤوا على طلب غيرها وقالوا {يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وكذلك كان فرعون وقومه كلما رأوا آية طلبوا غيرها حتى رأوا تسع آيات بينات ولم يؤمنوا وقوله تعالى {كما سئل موسى} يشمل كل ذلك. قد أرشدنا الله تعالى بهذا أن التفتن في طلب الآيات وعدم الإذعان لما يجئ به النبي منها والاكتفاء بعد العجز عن معاوضته هو دأب المطبوعين على الكفر الجامدين على المعاندة والمجاحدة، فإنه قال بعد إنكار هذا الطلب {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} ويوضح هذا قوله تعالى في آية أخرى {17: 59 وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب به الأولون} والمراد الآيات المقترحة، بدليل السياق، وهو اتفاق بين المفسرين. ولو كان الموضوع موضوع طلب استبدال أحكام بأحكام تنسخها لما كان للتوعد بالكفر وجه وجيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف، على نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة.. وهو تحذير لهم من نهاية هذا الطريق، وهي الضلال، واستبدال الكفر بالإيمان، وهي النهاية التي صار إليها بنو إسرائيل. كما أنها هي النهاية التي يتمنى اليهود لو قادوا إليها المسلمين!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث
« الصحيحين»:"فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفراً شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيَ زوجةُ ثابتِ بن قيس: « إني أكره الكفر» تريد الزنا، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفراً وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عُموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية،
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ونحن لا نريد أن نسترسل كثيراً في ما استرسل فيه المفسّرون من الحديث عن هذا الأمر، لأننا لا نجد الجانب التفصيلي في هذه القضايا موضع أهمية لاستيحاء الفكرة أو أخذ العبرة، فنجمل ما أجمله اللّه من القصة التي لم تتحدّث إلاَّ عن طبيعة هذا السؤال، وعلاقته باستبدال الإيمان بالكفر، ما يوحي بأنَّ الطلبات تتحرّك في اتجاه يقترب بهم إلى الكفر، ويخرجهم من خطّ الإيمان، فلنأخذ منها هذه الفكرة التي يريدنا اللّه أن نعرفها، لنعرف شدّة معاناة الرسول من قومه في ما أثاروه من قضايا تدخل في حساب الخطّة الشريرة التي استهدفت إشغاله عن مهمته، وتحدّيهم لشخصه أمام الجاهلين الذين لا يعرفون موازين الدور النبوي في حياة النّاس، أو محاولتهم السخرية منه بهذه الطريقة، ولندرك من خلال ذلك طبيعة المجتمع الذي عاش فيه النبيّ محمَّد (صلى الله عليه وسلم) كما عاشه الأنبياء من قبله، ومدى الجهد الذي بذله الأنبياء في تصحيح مسار الفكر، وتقويم منهج التفكير، وفي رفع مستواهم... ثُمَّ نعرف مسؤوليتنا ونحن نسير في طريق الدعوة إلى اللّه، أن نصبر حيث صبروا، وأن نعاني حيث عانوا، وأن نواجه ما واجهوه من أساليب التعنّت والتعصب والسخرية، بالعقلية الواعية التي تدرس خلفيات المجتمع الفكرية والعاطفية، لتقف أمامه من موقع هذه المعرفة بالحجة القوية، والكلمة الحكيمة، والموقف المرن، كما وقف القرآن أمام ذلك المجتمع، فلم يخاطبهم في هذه الآية بالحكم الذي يترتب على العقلية التي أطلقت هذه الأسئلة، بل وضعهم وجهاً لوجه أمام القاعدة الكلية، وهي أنَّ كثيراً من الخطوات التي يسير عليها الإنسان في طريقة التفكير والممارسة هي خطوات تتحرّك في طريق الكفر، فلا بُدَّ له أن يعي جيداً، وهو يسير في هذا السبيل، أنَّ هذا يعني استبدالاً للإيمان بالكفر، ولا بُدَّ له أن يعي أن من يتبدل الكفر بالإيمان في ما يوحيه كلّ منهما أو في ما يحقّقه للإنسان فقد انحرف عن الطريق المستقيم وانطلق يتخبط خبط عشواء في مجال لا يعرف فيه أين يقف وأين يسير...
أمّا العبرة من ذلك، فهي أن يدرس المؤمنون المسلمون إيمانهم في خطّ الإسلام، ليتعرفوا عمقه وامتداده، وليلتزموا كلّ مفرداته العقيدية والمنهجية والشرعية، ليتحرّكوا في كلّ أوضاعهم من خلال هذا الوعي العميق الواسع، وليحدّدوا أسئلتهم في حركة المعرفة، بحيث لا تنحرف عن أصول العقيدة التي تمثّل العمق الوجداني في الانتماء، فإذا عرضت لهم شبهة طرحوها كمشكلة يبحثون عن حلّها بعيداً عن حالة التعنت والتمرّد والاستهزاء، لأنَّ ذلك يمثّل الانتقال العملي من الإيمان إلى الكفر، ويبتعد بهم عن صفاء إنسانيتهم في التصوّر والمنهج، لأنَّ الإنسان الذي لا يتحرّك من موقع الحاجة إلى المعرفة بطريقة جديّة، هو إنسان لا يحترم معنى الإنسان في ذاته، وطبيعة التوازن في حياته...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -ذم التنطع في الدين، وطرح الأسئلة المحرجة والتحذير من ذلك...