ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم ، بعد أن بين حال علمائهم ومنافقيهم فقال تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي : ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة ، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم أو أمنيات باطلة يقدرونها في أنفسهم بدون حق ، أو قراءات عارية عن التدبر والفهم ، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبني على البرهان القاطع والدليل الساطع .
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة . فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية ، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم ، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم ، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم .
و ( الأماني ) - بالتشديد - جمع أمنية ، مأخوذة من تمنَّى الشيء أي : أحب أن يحصل عليه ، أو من تمنى إذا كذب ، أو من تمنى الكتاب أي قرأه .
فإن فسرنا الأماني بالأول كان قوله تعالى { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات .
وإن فسرناها بالكذب ، كان قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر ، وعارية عن الفهم . من قوله تمنى كتاب الله أول ليله . . . أي قرأ .
هذا ، وقد رجح ابن جرير تفسير ( الأماني ) بالأكاذيب فقال : ما ملخصه " وأولى ما روينا في تأويل قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالصواب ، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئاً ، ولكنهم يتخرصون الكذب ، ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً " .
والذي نراه أن المعاني الثلاثة للأماني تنطبق على اليهود ، وكلها حصلت منهم ؛ وما دام يصدق عليهم المعاني الثلاثة لغة فجميعها مرادة من الآية ، ولا معنى لأن نشتغل بترجيح بعضها على بعض كما فعل ابن جرير وغيره .
وعلى أي تفسير من هذه التفاسير للأماني ، فالاستثناء منقطع ، لأن أي واحد من هذه المعاني ليس من علم الكتاب الحقيقي في شيء .
وفي قوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } زيادة تجهيل لهم ، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل ، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين . وهذا النوع من العلم لا يكفي في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإِيمان العميق ، فهم ليسوا على علم يقيني من أمور دينهم ، وإنما هم يظنونها ظناً بدون استيقان ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
{ وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { ومِنْهُمْ أُمّيون } ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الاَيات ، وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ، فقال لهم : { أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } وهم إذا لقوكم قالوا آمنا . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ يعني من اليهود .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : أناس من يهود .
قال أبو جعفر : يعني بالأميين : الذين لا يكتبون ولا يقرءون ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » يقال منه رجل أميّ بيّن الأمية . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثني سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن منصور عن إبراهيم : { وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ } قال : منهم من لا يحسن أن يكتب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ومِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود .
ورُوي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول ، وهو ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } قال : الأميون قوم لم يصدّقوا رسولاً أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله ، فكتبوا كتابا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهال : هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ . وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله .
وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب .
قال أبو جعفر : وأرى أنه قيل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه ، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء ، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ » وكما قال : { هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الامّيَينَ رَسُولاً مِنْهُمْ } فإذا كان معنى الأمي في كلام العرب ما وصفنا ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أن معنى قوله : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ } : ومنهم من لا يحسن أن يكتب .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ } .
يعني بقوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ } لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم ، كالذي :
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ } إنما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتاب } يقول : لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } لا يَدْرُونَ ما فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ } قال : لا يدرون بما فيه .
حدثنا بشر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } لا يعلمون شيئا ، لا يقرءون ، التوراة ليست تستظهر إنما تقرأ هكذا ، فإذا لم يكتب أحدهم لم يستطع أن يقرأ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ } قال : لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله .
قال أبو جعفر : وإنما عنى بالكتاب : التوراة ، ولذلك أدخلت فيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه . ومعناه : ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم ، وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه ، إِلاّ أمانِيّ فقال بعضهم بما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { إلا أماني } يقول : إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبا .
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } إلا كذبا .
حدثني المثني قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وقال آخرون بما حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة : الأماني يقول : يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم . حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } يقول : إلا أحاديث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } قال : أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ، وكانوا يتكلمون بالظنّ بغير ما في كتاب الله ، ويقولون هو من الكتاب ، أمانيّ يتمنونها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { إلاّ أمانِيّ } يتمنون على الله ما ليس لهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إلاّ أمانِيّ } قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب . وليسوا منهم .
وأولى ما روينا في تأويل قوله : { إلاّ أمانِيّ } بالحقّ وأشبهه بالصواب ، الذي قاله ابن عباس ، الذي رواه عنه الضحاك ، وقول مجاهد : إن الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا ، ولكنهم يتخرّصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا . والتمني في هذا الموضع ، هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله ، يقال منه : تمنيت كذا : إذا افتعلته وتخرّصته . ومنه الخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : «ما تغنّيت ولا تمنيت » . يعني بقوله ما تمنيت : ما تخرّصت الباطل ولا اختلقت الكذب والإفك .
والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك وأنه أولى بتأويل قوله : { إلاّ أمانِيّ } من غيره من الأقوال ، قول الله جل ثناؤه : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقينا . ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين ، وكذلك لو كان معناه : يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه ، ولا يستحقّ الذي يتلو كتابا قرأه وإن لم يتدبره بتركه التدبير أن يقال : هو ظانّ لما يتلو إلا أن يكون شاكّا في نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم باطل . ولم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود فيما بلغنا شاكين في التوراة أنها من عند الله . وكذلك المتمني الذي هو في معنى المتشهي غير جائز أن يقال : هو ظانّ في تمنيه ، لأن التمني من المتمني إذا تمنى ما قد وجد عينه ، فغير جائز أن يقال : هو شاك فيما هو به عالم لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد ، والمتمني في حال تمنيه موجود غير جائز أن يقال : هو يظنّ تمنيه . وإنما قيل : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } والأماني من غير نوع الكتاب ، كما قال ربنا جل ثناؤه : { ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ } ، والظنّ من العلم بمعزل ، وكما قال : { وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ اَلأعْلَى } . وكما قال الشاعر :
لَيْسَ بَيْنِي وَبَينَ قَيْسٍ عِتابُ *** غيرَ طَعْنِ الكُلَى وَضَرْبِ الرّقابِ
حَلَفْتُ يَمِينا غيرَ ذِي مَثْنَوِيّةٍ *** وَلا عِلْمَ إلاّ حُسْنَ ظَنّ بِغائِبِ
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب .
ويخرج ب«إلاّ » ما بعدها من معنى ما قبلها ، ومن صفته ، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الاَخر ومن غير نوعه ، ويسمي ذلك بعض أهل العربية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد إلا عن معنى ما قبلها . وإنما يكون ذلك كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان «إلا » «لكن » ، فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول ، ألا ترى أنك إذا قلت : { وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ } ثم أردت وضع «لكن » مكان «إلا » وحذف «إلا » ، وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفيه «إلا » ؟ وذلك إذا قلت : " وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ " لكن أماني ، يعني لكنهم يتمنون ، وكذلك قوله : " ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ " لكن اتباع الظنّ ، بمعنى : لكنهم يتبعون الظنّ ، وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا .
وقد ذكر عن بعض القرّاء أنه قرأ : «إلاّ أمانِيَ » مخففة ، ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتح ، والقرقور قراقر ، وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية ، أعني من الأماني ، كما جمعوا الأثفية أثافي مخففة ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
أثَافِيَ سُفْعا فِي مُعَرّسِ مِرَجَلٍ *** ونُؤْيا كجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلّمِ
وأما من ثقل : " أمانِيّ " فشدّد ياءها فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتيح ، والقرقور قراقير ، والزنبور زنابير ، فاجتمعت ياء فعاليل ولامها وهما جميعا ياءان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا ياء واحدة مشددة .
فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارىء في ذلك فتشديد ياء الأمانيّ ، لإجماع القرّاء على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف ، مستفيض ذلك بينهم غير مدفوعة صحته ، وشذوذ القارىء بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك وكفى خطأ على قارىء ذلك بتخفيفها إجماعا على تخطئته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } .
يعني بقوله جل ثناءه : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّون } «وما هم » كما قال جل ثناؤه : { قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } يعني بذلك : ما نحن إلا بشر مثلكم . ومعنى قوله : " إلاّ يَظُنّونَ " ألا يشكون ولا يعلمون حقيقته وصحته ، والظنّ في هذا الموضع الشك ، فمعنى الآية : ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه إلا تخرّصا وتقوّلاً على الله الباطل ظنا منه أنه محقّ في تخرّصه وتقوّله الباطل . وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظنّ أنهم محقون وهم مبطلون ، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله ، ولم تكن من كتاب الله ، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتبعون ما هم فيه شاكون ، وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله ، ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } قال فيه المتأوّلون من السلف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } : إلا يكذبون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون نبوّتك بالظنّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ } قال : يظنون الظنون بغير الحقّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : يظنون الظنون بغير الحقّ .
حدثت عن عمارة ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها . أو التوراة { إلا أماني } استثناء منقطع . والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة . سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة . وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :
تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل
وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون . { وإن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة .