أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى ، نسمع عند وجهه كدوى النحل ، فأنزل عليه يوماً ، فمكثنا ساعة فسرى عنه ، فاستقبل القبلة ، فرفع يديه فقال : " اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا " .
ثم قال : لقد أنزلت على عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } إلى قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وأخرج النسائى عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى انتهت إلى قوله - تعالى - : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفلاح : الظفر بالمراد ، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه .
والخشوع : السكون والطمأنينة ، ومعناه شرعاً : خشية فى القلب من الله - تعالى - تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدى الله - سبحانه - .
والمعنى : قد فاز وظفر بالمطلوب ، أولئك المؤمنون الصادقون ، الذين من صفاتهم أنهم فى صلاتهم خاشعون ، بحيث لا يشغلهم شىء وهم فى الصلاة عن مناجاة ربهم ، وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة .
ومن مظاهر الخشوع : أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده ، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة ، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشىء من جسده ، فقد أبصر النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته فى الصلاة فقال : " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " .
قال القرطبى : " اختلف الناس فى الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحلق القلب ، وهو أول عمل يرفع من الناس . . . " .
وقوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يقول تعالى ذكره : الذين هم في صلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته ، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها . وقيل : إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها ، فنُهُوا بهذه الاَية عن ذلك . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت خالدا ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى نظر إلى السماء ، فأنزلت هذه الاَية : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن أبي جعفر ، عن الحجاج الصوّاف ، عن ابن سيرين ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فقالوا بعد ذلك برؤوسهم هكذا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال : «نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء ، فنزلت آية إن لم تكن الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ فلا أدري أية آية هي قال : فطأطأ » . قال : وقال محمد : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصْره مصّلاه ، فإن كان قد استعاد رالنظر فليغْمِض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن ابن عون ، عن محمد نحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي عني به في هذا الموضع من الخشوع ، فقال بعضهم : عني به سكون الأطراف في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : السكون فيها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : سكون المرء في صلاته .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، عن الثوريّ ، عن أبي سفيان الشيباني ، عن رجل ، عن عليّ ، قال : سئل عن قوله : الّذِينَ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : لا تلتفت في صلاتك .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرمليّ ، قال : قال ضَمْرة بن ربيعة ، عن أبي شَوْذب ، عن الحسن ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قال : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجَناح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، في قوله : خاشعُونَ قال : الخشوع في القلب ، وقال : ساكنون .
قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني خالد بن عبد الله ، عن المسعوديّ ، عن أبي سنان ، عن رجل من قومه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : الخشوع في القلب ، وأن تُلِين للمرء المسلم كَنَفك ، ولا تلتفت .
قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشعُونَ قال : التخشع في الصلاة . وقال لي غير عطاء : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه ، حتى نزلت : قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فما رُؤي بعد ذلك ينظر إلاّ إلى الأرض .
وقال آخرون : عني به الخوف في هذا الموضع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعُونَ قال : خائفون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ خاشِعُونَ قال الحسن : خائفون . وقال قتادة : الخشوع في القلب .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهمْ حاشعُونَ يقول : خائفون ساكنون .
وقد بيّنا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر ، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام ما وصفت مِنْ قَبْلُ من أنه : والذين هم في صلاتهم متذللّون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته ، وإذا تذلل لله فيها العبد رؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أمر بتركه فيها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.