غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

153

{ ولنبلونّكم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه ، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير ؟ أمر أولاً بالشكر على إكمال الشرائع ، ثم بالصبر على التكاليف الدينية ، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب ، ومعنى { بشيء } بيان من هذه الأشياء وأيضاً لو قال " بأشياء " لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروباً وليس بمراد . وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه ، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم . واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان في الحال سمي ذوقاً ووجداً لأنها حالة تجدها من نفسك ، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً ، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً والارتياح رجاء . وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت . عن عطاء والربيع بن أنس : أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان { هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً }

[ الأحزاب : 11 ] وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يشد الحجر على بطنه . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال : ما أخرجك ؟ قال : الجوع . قال : أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون . فهناك يحصل النقص في المال والنفس ، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله } إلى قوله { إلا كتب لهم به عملٌ صالح } [ التوبة : 120 ] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان . وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد . وعن الشافعي : الخوف خوف الله ، والجوع صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد . قال صلى الله عليه وسلم " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم . فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول الله : " ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " { ونقص } عطف على { شيء } ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال . و الخطاب في { وبشر } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة . قال الإمام الغزالي رحمه الله : الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها ، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال . وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء ، ثم شهوة اللعب بعد حين ، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية ، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر . وإنه ضربان : بدني فعلاً كتعاطي الأعمال الشاقة ، أو انفعالاً كالثبات على الآلام ، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع ، فإن كان حبساً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان احتمال مكروه ، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها ، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس ، ويضاده حالة البطر . وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلماً ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وضده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره . وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن ، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع . ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال : إنها رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء . ثم قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا . ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلواً وهو مما لابد منه ولهذا قيل : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه .

وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال { وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لما صبروا } [ السجدة : 27 ]

{ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } [ الأعراف : 137 ]

{ ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 96 ] { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } [ الزمر : 10 ] فما من طاعةٍ إلا وأجرها مقدر إلا الصبر ، ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي " الصوم لي " فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال { واصبروا إن الله مع الصابرين } [ الأنفال : 46 ] وعلق النصرة بالصبر فقال { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } [ آل عمران : 125 ] وجمع للصابرين أموراً لم يجمعها لغيرهم { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } وقال صلى الله عليه وسلم " الصبر نصف الإيمان " لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي ، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر . فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحدٍ منهما قد يكون مطابقاً لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، فلهذا عاد إلى النصف . وقد جاء " الإيمان هو الصبر " وذلك كقوله " الحج عرفة " وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر " وقال : " يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين " ومن فضيلة الصبر أن قال صلى الله عليه وسلم : " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال " شارب الخمر كعابد الوثن " وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفاً لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمان بن عوف لمكان غناه . وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد . وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب .