غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158)

158

التفسير : إن في تعليق الآية بما قبلها وجوهاً منها : أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه السلام كما مر في قصة هاجر ، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم . ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل ، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما ، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى . ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة : أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله { فاذكروني أذكركم واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً وذلك قوله { ولنبلونكم } [ البقرة : 155 ] الآية ، وثالثها ما ليس يهتدي العقل إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبداً محضاً وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما ، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميماً للأحكام واستيفاءً لجميع الأقسام . والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة - زادها الله شرفاً . والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل " ما تندى صفاته " والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على " فعول " وإذا نعتوا الصخرة قالوا " صفاة صفواء " وإذا ذكروا قالوا " صفا صفوان " قال تعالى { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] وعن الأصمعي : المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار ، الواحدة مروة . والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة . وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله ، أوهما من متعبداته . وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كما مر قوله { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 138 ] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضاً من أبعاض الحج فلهذا قرن بقوله { فمن حج البيت أو اعتمر } والحج لغة القصد . رجل محجوج أي مقصود وهو أيضاً كثرة الاختلاف والتردد ، وحج فلان فلاناً إذا أطال الاختلاف إليه . ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك . والحاج يأتي البيت أولاً ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر . ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها . والاعتمار لغة الزيارة . فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف . والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف . والجناح الحرج والإثم من قولهم " جنح لكذا " أي مال إليه ، كأن صاحبه مال إلى الباطل . أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله { لا جناح عليه } يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح . وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا ، متمسكين بدلائل أخر . فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } [ الجمعة : 9 ] ولما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى { واتبعوه } ولقوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " والأمر للوجوب . وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم . وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس : أنه تطوع وليس على تاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك { ومن تطوع خيراً } أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلةٍ وهما صنمان . كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح . فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه . فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا غلى نفس الصلاة ، ولهذا قال عروة لعائشة : أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة ، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت " لا جناح عليه أن يطوّف بهما " وأصل " يطوف " " يتطوف " فأدغم كمن قرأ " يطوع " بالتشديد وأصله " يتطوع " والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك . ومن قال : إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب . وعن الحسن : المراد منه جميع الطاعات . وهذا أولى لعموم اللفظ { فإن الله شاكر } ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكراً تشبيهاً بجزاء النعمة ، وفيه تلطف العباد مثل { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] كأنه يقول : إني وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل . { عليم } بالسرائر فيوفي كل ذي حق حقه . وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضاً يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة .

/خ162