{ إن الذين يكتمون } كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين . وقيل : هم أهل الكتاب . وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفته صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف . ولا يخفى أنَّ القرآن قبل صيرورته متواتراً يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان . وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم . عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } فحملت الآية على العموم . وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا { إن الذين يكتمون } قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً . فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها . وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس . وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً ووحياً دون أدلة العقل . والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل . وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد . ولقوله { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور . وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى . وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان ، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم . ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لاسيما وقد قال { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } فحكم بوقوع البيان بخبرهم . واستدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب . وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام . والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس . وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن { أولئك } تبعيد لهم عن درجة الاعتبار { يلعنهم الله } يبعدهم عن كل خير { ويلعنهم } يدعو عليهم باللعن { اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين . وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم . واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ]
{ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] { وقالوا لجلودهم لم شهدتم } [ فصلت : 21 ] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه . وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضاً لأنهم كتموهم الدين { كلما دخلت أمة لعنت أختها }
[ الأعراف : 38 ] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه . وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق . قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك ؟ فيقول : لا أدري . فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.