غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَـٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ} (159)

158

{ إن الذين يكتمون } كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئاً من الدين . وقيل : هم أهل الكتاب . وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفراً من اليهود عما في التوراة من صفته صلى الله عليه وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف . ولا يخفى أنَّ القرآن قبل صيرورته متواتراً يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان . وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم . عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } فحملت الآية على العموم . وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا { إن الذين يكتمون } قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتماناً . فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها . وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس . وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتاباً ووحياً دون أدلة العقل . والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل . وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد . ولقوله { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور . وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى . وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهياً عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر ؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان ، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم . ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لاسيما وقد قال { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } فحكم بوقوع البيان بخبرهم . واستدل بالآية أيضاً على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب . وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام . والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس . وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن { أولئك } تبعيد لهم عن درجة الاعتبار { يلعنهم الله } يبعدهم عن كل خير { ويلعنهم } يدعو عليهم باللعن { اللاعنون } الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين . وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم . واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل { والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ]

{ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] { وقالوا لجلودهم لم شهدتم } [ فصلت : 21 ] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه . وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضاً لأنهم كتموهم الدين { كلما دخلت أمة لعنت أختها }

[ الأعراف : 38 ] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه . وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق . قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك ؟ فيقول : لا أدري . فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت .

/خ162