ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق ، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب ، فبين صريحا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه ، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا ، فقال : { إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم 173 } .
{ إنما حرّم عليكم الميتة } وهي في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنطيحة ، وما عدا عليها السبُع .
قال ابن كثير : وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر ، لقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } {[943]} على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وحديث العنبر في ( الصحيح ) .
وفي ( المسند ) ، ( والموطّأ ) ، ( والسنن ) : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر{[944]} : ( هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته ) .
/ وروى الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدرقطنيّ حديث ابن عمر{[945]} : ( أحلت لنا ميتتان ودمان . فأما الميتتان فالحوت والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال ) . { والدم } وهو المسفوح أي : الجاري ، كما صرّح بذلك في الآية الأخرى والمفسّر قاض على المبهم وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمّونه الفصيد . وفي ( القاموس وشرحه ) : والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في مِعىً من فَصْدِ عرق البعير ، ويشوى ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة . ويحكى : أنه بات رجلان عند أعرابيٍّ فالتقيا صباحا ، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال : ما قريت وإنما فُصِدَ لي . فقال : لم يحرم من فُصْد له بسكون الصاد فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المفصد ، وسكّن الصاد تخفيفا ، أي : لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها . ويروى : من فزْد له بالزاي بدل الصاد وبعضهم يقول : من قصد له بالقاف أي : من أعطي قصدا أي قليلا . وكلام العرب بالفاء . وقال يعقوب : تأويل هذا أن الرجل كان يضيف الرجل في شدة الزمان ، فلا يكون عنده ما يقريه ، ويشحّ أن ينحر راحلته ، فيفصدها ، فإذا خرج الدم سخّنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إيّاه . { ولحم الخنزير } ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه : إما تغليبا ؛ أو لأن الحكم يشمل ذلك لغة ، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه ، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده . وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر . وهو هنا على أصله في اللغة . وإما بطريق القياس على رأي ، لأنه إذا حرّم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم . ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس ، حرم ما يرين على القلب ، فقال { وما أهلّ به لغير الله } أي : ذُبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك ما كانت الجاهلية ينحرون له . وأصل ( الإهلال ) رفع الصوت أي : رفع به الصوت للصنم ونحوه ، وذلك كقول أهل الجاهلية : باسم اللاتِ والعزّى .
وذكر القرطبيّ عن ابن عطيّة أنه نقل عن الحسن البصريّ ( أنه سئل عن امرأة عملت عرسا لِلُعَبِها ، فنحرت فيه جزورا ، فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم ) . وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها : { أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم ) . والقصد سَدُّ ما كان مظنة للشرك .
قال النوويّ في ( شرح مسلم ) : فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له ، وكان غير الله تعالى والعبادة له ، كان ذلك كفرا . فإن كان الذابح مسلما ، قبل ذلك ، صار بالذبح مرتدًّا . ذكره في الكلام على حديث{[946]} عليٍّ رضي الله عنه : ( لعن الله من ذبح لغير الله ) .
قال الحراليّ : وذِكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يُعلم من خفيّ الذكر . وقد روى البخاري{[947]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوما يأتوننا باللحم ، لا ندري أذكر / اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . وقالت : وكانوا حديثي عهد بكفر ) . فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ؛ بل الذي علم أن غير اسم الله قد أعلن به عليه .
وروي عن علي رضي الله عنه قال : ( إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلّون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا ، فإن الله قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون ) .
" فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات "
فأما الميتة : فقال الحراليّ : هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة وهي أشد مفسد للجسم ، لفساد تركيبها بالموت ، وذهاب تلزز أجزائها ، وعفنها ، وذهاب روح الحياة والطهارة منها .
وقال المهايميّ في ( تفسيره ) : ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرّم وهو الميتة وما ذكر معها . فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث ، فينقطع عنها محبة الله . وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر ، فكما لا يؤثر فيه النجاسة ، لا يؤثر نزع فيما حصل منه ، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات .
وأما خبث الدم : فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء ، فهو ميتة .
وقال الإمام ابن تيمية : حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية ، / وزيادته توجب طغيان هذه القوى ، وهو مجرى الشيطان من البدن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم{[948]} : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وأما خبث لحم الخنزير : فلِأَذاه للنفس كما حرم ما قبله لمضرّتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه : أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء : {[949]} ( الكبر والخيلاء في الفدّادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم ) . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة ، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق . نقله البقاعيّ .
وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء . فمن مضاره : أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة : كالمغص ، والإسهال ، والقيء ، وفقد شهوة الطعام أو النهم الشديد ، وآلام الرأس ، والإغماء ، والدوار ، واضطراب الفكر ، وعروض نوبات صرعية ، وتشنّجات عصبية ، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمّى ، ويودي بحياة المصاب . . . إلى غير ذلك من التعب ، وعسر الهضم ، ومضار سواها .
/ قال حكيم : فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط ، بل لإصلاح الروح والجسم معا . . ! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبّه عليه تصريحا أو تلويحا . . . وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة .
وأما خبث المهلّ به لغير الله : فلأنه يَرِين على القلب ، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة ، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ، فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن ؛ والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا ، ولصيانة مقام التوحيد .
ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج ، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر ، فقال { فمن اضطرّ } أي ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف ، فأكل من شيء منه حال كونه { غير باغ } أي غير طالب له راغب فيه لذاته . من ( بغى الشيء وابتغاه : طلبه وحرص عليه ) { ولا عاد } أي : مجاوز لسدّ الرمق وإزالة الضرورة { فلا إثم عليه } وإن بقيت حرمته ، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع .
وقال الراغب : واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسدّ غيره مسدّه . والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلّة المذكورة ، يعني : إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه ، وهي التي أجيز تناول ما ذكر له للجوع .
{ إن الله غفور } لما أكله حال الضرورة { رحيم } حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم .