محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

[ 42 ] { سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) } .

{ سماعون للكذب } أي الباطل . خبر لمحذوف . وكرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لقوله { أكالون للسحت } أي : الحرام . وهو الرشوة كما قال ابن مسعود .

قال الزمخشري : السحت كل ما لا يحل كسبه . وهو من ( سحته ) إذا استأصله . / لأنه مسحوت البركة . كما قال تعالى : { يمحق الله الربا }{[3045]} . والربا باب منه . وقرئ ( السحت ) بالتخفيف والتثقيل ، و ( السحت ) بفتح السين على لفظ المصدر من ( سحته ) ، و ( السحت ) بفتحتين ، و ( السحت ) بكسر السين . وكانوا يأخذون الرضا على الأحكام وتحليل الحرام . انتهى .

وفي ( اللباب ) : السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره . وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة . ومعلوم أن حال الرشوة كذلك ، فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم . عن أبي هريرة{[3046]} : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم " . أخرجه الترمذي . وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

قال ابن مسعود : " الرشوة في كل شيء . فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما ، فأهدي بها إليه ، فقبل ، فهو سحت . فقيل له : يا أبا عبد الرحمن  ! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ؟ فقال : الأخذ على الحكم كفر  ! قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .

{ فإن جاءوك } يعني اليهود لتحكم بينهم { فاحكم بينهم } لأنهم اتخذوك حكما { أو أعرض عنهم } لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم ، أي : فأنت بالخيار . وقد استدل بالآية من قال : إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم . وعن بعض السلف : إن التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } . والتحقيق أنها محكمة ، والتخيير باق . وهو مروي عن الحسن / والشعبي والنخعي والزهري ، وبه قال أحمد . لأنه لا منافاة بين الآيتين . فإن قوله تعالى : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فيه التخيير . وقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } في كيفية الحكم ، إذا حكم بينهم { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } أي : فلن يقدروا على الإضرار بك ، لأن الله تعالى عاصمك من الناس { وإن حكمت فاحكم بالقسط } ، أي : بالعدل الذي أمرت به ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إن الله يحب المقسطين } ، أي : العادلين فيما ولوا وحكموا .

روى مسلم{[3047]} عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن . وكلتا يديه يمين . الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .


[3045]:-[2/ البقرة/ 276] ونصها: {... ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276)}.
[3046]:- أخرجه الترمذي في: 13- كتاب الأحكام، 9- باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
[3047]:- أخرجه مسلم في: 33- كتاب الإمارة، حديث 18 طبعتنا).