جاءتكم جنود : الأحزاب ، وهم قريش وبنو أسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم ومن اليهود بنو النضير وبنو قريظة .
نزلت هذه الآيات إلى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحزاب ، أو غزوة الخندق .
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة ، وكانت من أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون ، في تقرير مصير الدعوة الإسلامية . وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله .
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير ، ونفر من بني وائل من اليهود ، فقدِموا على قريش في مكة . وهناك دعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لهم : إنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه . فسرّ ذلك قريشاً ، ونشِطوا لما دعوهم إليه . ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين . وطافوا في القبائل ، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية ، كانت قريش وغطفان من أهم أعضائها . فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل ، وغطفان ستة آلاف . وأُسندت قيادةُ الجيش إلى أبي سفيان ، وتعهد اليهود أن يدفعوا إلى غطفان كل تمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة .
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم إلى المدينة ، تهيأ المسلمون للحرب ، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها ، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل .
وفي هذه الأثناء أشار سلْمان الفارسيّ ، رضي الله عنه ، بحفر الخندق حول المدينة ، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس ، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة ، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو . وقد قسم رسول الله الخندقَ بين أصحابه لكل عشرةٍ أربعين ذراعا ، وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع ( نحو أربعة كيلومترات ) ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة ، وعرضهُ من تسعة أذرع إلى ما فوقها .
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم ، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية ، حرة الوبرة .
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط ، وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت ، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه .
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ ، فحملهم حُييّ بن أخطَب ، سيدُ بني النضير ، على نقض تلك المعاهدة . فنقضوها ، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب . وعظُم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وزاغت الأبصار ، وبلغت القلوبُ الحناجر .
وجاء أبو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة . وفوجئوا بالخندق ، فوقفوا من ورائه ، وقفز أحد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحصانه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة . فبرز له عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وقتله . ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام ، ودام الحصار نحو شهر ، اشتد فيه البلاء . واستأذن بعض المنافقين في الذهاب إلى المدينة وقالوا : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } ، وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام . فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام ، وقد أخلفتنا بنو قريظة ، وبلغَنا عنهم الذي نَكره ، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون ، فارتحِلوا فإني مرتحِل .
فانطلَقوا ، وأصبح الصباح فإذا القوم قد ارتحلوا . وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم : { يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } ، { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } .
ووضعت الحربُ أوزارها ، فلم ترجعْ قريش بعدَها إلى حرب المسلمين . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا ، ولكنّكم تغزونهم » والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم ، وابن كثير .
واستُشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة ، وقُتل من المشركين أربعة .
ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت مشقته وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف{[55107]} موافق ، ولا اهتمام بمخالف مشاقق{[55108]} ، اعتماداً على تدبيره ، وعظيم أمره في تقديره ، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم ، وأشد ما دهمتهم من كروبهم{[55109]} ، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من{[55110]} الأوامر الأمة - وإنما وجه الأمر إلى الإمام{[55111]} ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي{[55112]} صلى الله عليه وسلم تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له { كن } فحقيقته الإرادة لا الأمر ، والأمر للذين آمنوا تكليفي{[55113]} . وقد يراد منهم{[55114]} ما يؤمرون{[55115]} به وقد لا يراد ، وللناس احتجاجي أي تقام{[55116]} به عليهم الحجة ، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه{[55117]} خلاف المأمور به : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، عبر به ليعم المنافقين { اذكروا } ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال : { نعمة الله } عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له { عليكم } أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان ، فإن الله كافيكم كل{[55118]} ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال : { إذ } أي حين { جاءتكم } أي{[55119]} في غزوة الخندق حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي صلى الله عليه وسلم ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من{[55120]} شماليه ، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين{[55121]} ذراعاً ، وكانوا ثلاثة آلاف ، فكان الخندق اثني عشر ألف ذراع { جنود } وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من {[55122]}الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب ، ومن انضم من{[55123]} قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور ، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن ، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد ، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير من المدينة الشريفة ، وأفسدوا أيضاً بني قريظة ، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد ، فكان الجميع اثني عشر الفاً ، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم{[55124]} لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية ، ولا يكون لأحد من أهله منهم{[55125]} واقية .
ولما كان مجيء الجنود مرهباً ، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال : { فأرسلنا } أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم{[55126]} من سهولة الوصول إليكم ، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة { عليهم } أي خاصة { ريحاً } وهي ربح{[55127]} الصبا ، فأطفأت نيرانهم .
وأكفأت قدورهم وجفانهم ، وسفت التراب في وجوههم ، ورمتهم بالحجارة وهدت{[55128]} خيامهم ، وأوهنت ببردها عظامهم ، وأجالت خيلهم { وجنوداً لم تروها } يصح أن تكون الرؤية بصرية وقلبية ، منها من البشر نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه هداه الله للإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنه لم يعلم أحد{[55129]} بإسلامي ، فمرني يا رسول الله بأمرك ! فقال : " إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة ، فخذل عنا{[55130]} مهما استطعت " فأخلف{[55131]} بين اليهود وبين العرب بأن قال لليهود وكانوا أصحابه : إن هؤلاء - يعني العرب - إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين . وليس حالكم كحالهم ، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم ، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ليكونوا عندكم{[55132]} حتى تناجزوا الرجل ، فإنه ليس لكم به طاقة إذا انفرد بكم ، فقالوا : أشرت بالرأي ، فقال : فاكتموا عني ، وقال لقريش : قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد ، وقد سمعت أمراً ما أظن {[55133]}أنكم تتهمونني{[55134]} فيه ، فقالوا : ما أنت عندنا بمتهم ، قال : فاكتموا عني{[55135]} ، قالوا : نفعل ، قال : إن اليهود قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه : إنا قد ندمنا فهل ينفعنا عندك{[55136]} أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم ، ونكون معك على بقيتهم ، حتى تفرغ منهم{[55137]} لتكف{[55138]} عنا . وتعيد لنا الأمان ، قال : نعم ، فإن أرسلوا إليكم فلا{[55139]} تدفعوا إليهم رجلاً واحداً ، ثم أتى غطفان فقال : إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ، قالوا : صدقت ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم ، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهناً فقالوا{[55140]} : صدق نعيم ، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحداً{[55141]} ، فقالت قريظة : صدق نعيم ، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم ، فانكسرت شوكتهم ، وبردت حدتهم ، ومنها{[55142]} من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ، والتحية والإكرام ، فكبروا في نواحي عسكرهم ، وزلزلوا بهم{[55143]} ، وبثوا الرعب في قلوبهم ، فماجت خيولهم ، واضمحل قالهم وقيلهم ، فكان في ذلك رحيلهم ، بعد نحو أربعين يوماً أو بضع وعشرين - على ما قيل .
ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية ، فصلها فقال{[55144]} ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً{[55145]} : { وكان الله } الذي له جميع صفات {[55146]}الكمال و{[55147]}الجلال والجمال { بما يعملون } أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيىء - على قراءة البصري{[55148]} ، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره{[55149]} - على قراءة الباقين { بصيراً } بالغ الإبصار والعلم ، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم ، ولا أغنت عنهم كثرتهم ، ولا ضر المؤمنين قلتهم ، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم{[55150]} بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم - كما سيأتي ؛