يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل ، من الدعوة إلى توحيدِ الله ، والإيمان باليوم الآخر ، وأمرِ النبوة ، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة ، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا ، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع . وهذا كله إنما يُوحى إليك أيها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم .
قرأ ابن كثير وحده : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء . والباقون : يوحي بكسر الحاء .
يخبر تعالى أنه أوحى هذا القرآن العظيم إلى النبي الكريم ، كما أوحى إلى من قبله من الأنبياء والمرسلين ، ففيه بيان فضله ، بإنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، سابقا ولاحقا ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ، وأن طريقته طريقة من قبله ، وأحواله تناسب أحوال من قبله من المرسلين . وما جاء به يشابه ما جاءوا به ، لأن الجميع حق وصدق ، وهو تنزيل من اتصف بالألوهية والعزة العظيمة والحكمة البالغة ، وأن جميع العالم العلوي والسفلي ملكه وتحت تدبيره القدري والشرعي .
قوله تعالى : { كذلك يوحي إليك } وقرأ ابن كثير يوحى بفتح الحاء وحجته قوله : { أوحينا إليك } { وإلى الذين من قبلك } ( الزمر-65 ) ، وعلى هذه القراءة . قوله ، { الله العزيز الحكيم } تبين للفاعل كأنه قيل : من يوحي ؟ فقيل : الله العزيز الحكيم ، وقرأ الآخرون يوحي بكسر الحاء ، إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم . قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أخبار الغيب .
ولما كانت هذه الحروف - والله أعلم - مشيرة إلى الاجتماع كما أشار إليه آخر السورة الماضية ، قال الله سبحانه وتعالى : { كذلك } أي مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن الذي أخبرك به ربك صريحاً أول " فصلت " من أن الإله إله واحد وآخرها من أنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، ومن أنه يجمع لك أمتك على هذا الدين بما يتبين لهم أن هذا القرآن هو الحق بما يريهم من الآيات البينات والدلالات الواضحات في الآفاق وفي أنفسهم وبشهادته سبحانه باعجاز القرآن لجميع الإنس والجان ولا سيما إذا أقدم ضال على معارضته كمسيلمة فإنه يتبين لهم الأمر بذلك غاية البيان " وبضدها تتبين الأشياء " ورمز لك به سبحانه تلويحاً اول هذه السورة بهذه الأحرف المقطعة التي هي أعلى وأغلى من الجواهر المرصعة - إلى مثل ذلك ، فهما نوعان من الوحي : صريح وعبارة ، وتلويح وإشارة .
ولما كان المقصود الإفهام لأن الإيحاء منه سبحانه عادة مستمرة إلى جميع أنبيائه ورسله والبشارة له صلى الله عليه وسلم بتجديده له ، مدة حياته تثبيتاً لفؤاده ، ودلالة على دوام وداده ، عبر بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار ، وتقدم في أول البقرة نقلاً عن أبي حيان ومن قبله الزمخشري وغيره أنه قد لا يلاحظ منه زمن معين ، بل يراد مطلق الوجود فقال : { يوحى إليك } أي سابقاً ولاحقاً ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك أصلاً توديعاً ولا قلى بما يريد من أمره مما يعلي لك مقدارك ، وينشر أنوارك ويعلي منارك .
ولما كان الاهتمام بالوحي لمعرفة أنه حق - كما أشارت إليه قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول - والموحي إليه لمعرفة أنه رسول حقاً وكان المراد بالمضارع مجرد إيقاع مدلوله لا يفيد الاستقبال صح أن يتعلق به قوله مقدماً على الفاعل : { وإلى الذين } والقائم مقام الفاعل في قراءة ابن كثير ضمير يعود على " كذلك " .
ولما كان الرسل بعض من تقدم في بعض أزمنة القبل ، ادخل الجار فقال : { من قبلك } أي من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ، بأن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء ، وأخذ على كل منهم العهد باتباعك ، وأن يكون من أنصارك وأشياعك . ولما قدم ما هو الأهم من الوحي والموحى إليه ، أتى بفاعل { يوحي } في قراءة العامة فقال : { الله } أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال . . وهو مرفوع عند ابن كثير بفعل مضمر تقديره الذي يوحيه . ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال : { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء { الحكيم * } الذي يضع ما يصنعه في أتقن محاله ، فلأجل ذلك لا يقدر على نقض ما أبرمه ، ولا نقص ما أحكمه .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حالي المعاندين والجاحدين ، وأعقبت بسورة السجدة بياناً أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمه وإيضاحاً لأنه الكتاب العزيز وعظيم برهانه ، ومع ذلك فلم يجد على من قضى عليه تعالى بالكفر ، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم الأزلية { فريق في الجنة وفريق في السعير } { وما أنت عليهم بوكيل } { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ) ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) { ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم } { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } { وما أنتم بمعجزين في الأرض } { ومن يضلل الله فما له من سبيل } { إن عليك إلا البلاغ } { نهدي به من نشاء من عبادنا } فتأمل هذه وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا النادر ، ومحكم ما استجره ، وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها ، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.