وفي هذه الآية قطعٌ لألسنة المنافقين وشياطينهم من اليهود الذين قالوا إن محمداً تزوج حليلة ابنه زيد . إن محمداً ليس أبا لأحد من رجالكم حتى يحرُم عليه التزوج من مطلقته ولكنّه أبٌ للمؤمنين جميعا ، ولذلك فهو يشرّع الشرائع الباقية ، لتسير عليها البشرية ، وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض ، { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، فقضى الله هذا وفق علمه بكل شيء .
قرأ عاصم وحده : { خاتَم } بفتح التاء ، والباقون : { خاتم } بكسر التاء .
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ }
أي : لم يكن الرسول { مُحَمَّدٌ ْ } صلى اللّه عليه وسلم { أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ْ } أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه ، من هذا الباب .
ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال ، إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره ، أي : لا أبوة نسب ، ولا أبوة ادعاء ، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين كلهم ، وأزواجه أمهاتهم ، فاحترز أن يدخل في هذا النوع ، بعموم النهي المذكور ، فقال : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ْ } أي : هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ، المهتدى به ، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته ، على محبة كل أحد ، الناصح الذي لهم ، أي : للمؤمنين ، من بره [ ونصحه ]{[1]} كأنه أب لهم .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ } أي : قد أحاط علمه بجميع الأشياء ، ويعلم حيث يجعل رسالاته ، ومن يصلح لفضله ، ومن لا يصلح .
ولما أفاد هذا كله أن الدعي{[55681]} ليس ابناً ، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي{[55682]} عن عائشة رضي الله عنها : تزوج حليلة ابنه ، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال : { ما كان } أي بوجه من الوجوه مطلق كون { محمد } أي على كثرة نسائه وأولاده { أبا أحد من رجالكم } لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة ، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن ، ولم يقل : من بينكم ، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها - ابن ، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام ، مع ما كان له قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم{[55683]} الحلم - على جميعهم الصلاة والسلام .
ولما كان{[55684]} بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال{[55685]} حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة{[55686]} قال : { ولكن } كان في علم الله غيباً وشهادة أنه{[55687]} { رسول الله } الملك الأعظم الذي كل من{[55688]} سواه عبده ، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية ، إما{[55689]} من جهته{[55690]} فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية ، وأما من جهتكم فبوجوب{[55691]} التعظيم والتوقير والطاعة وحرمة الأزواج ، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه{[55692]} فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به ، وقد بلغكم قوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } ووظيفته الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر ، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه .
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوة الرجال قال : { وخاتم النبيين } أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن ، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال ، فلا يولد بعده{[55693]} من يكون نبياً ، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه{[55694]} مبلغ الرجال ، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً ، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها ، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته ، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له{[55695]} ، روى أحمد{[55696]} وابن ماجه{[55697]} عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[55698]} في ابنه إبراهيم : " لو عاش لكان صديقاً نبياً " ، وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، وللبخاري{[55699]} من حديث{[55700]} ابن أبي أوفى رضي الله عنه : لو قضى أن يكون بعد{[55701]} محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه ، ولكن لا نبي بعده .
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع{[55702]} جديد مطلقاً{[55703]} ولا يتجدد بعده أيضاً{[55704]} استنباء نبي مطلقاً{[55705]} ، فقد آل الأمر إلى أن{[55706]} التقدير : ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان{[55707]} - مع أنه رسول الله - ختاماً للنبوة{[55708]} غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها ، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه ، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم{[55709]} بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو{[55710]} كونه رسولاً وخاتماً ، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك{[55711]} بشر لم يكن إلا ولداً له ، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها{[55712]} إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان ، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم{[55713]} شيء لم يأت به من قبله ، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله ، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه ، فمهما حصل ذهول{[55714]} عن ذلك قروه{[55715]} من يريد الله من العلماء ، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار{[55716]} " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل {[55717]} " وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن{[55718]} من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما{[55719]} لا يستقل بأعبائه غير نبي ، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب *** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنه إن عاش ساواك في العلا *** فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل
وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ - أي لفظ هذه الآية - ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً ، وعدم رسول بعده أبداً ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص ، وقال : إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه ، من أنواع الهذيان ، لا يمنع الحكم بتكفيره ، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مأول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد ، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد ، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا ، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه :
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير{[55720]} قادح في هذا النص ، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته ، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن ، فلم يكن{[55721]} ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً صلى الله عليه وسلم ، لولا هو لما وجد ، وذلك أنه لم يكن لنبي{[55722]} من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه ، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها ، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام .
ولما كان المقام في هذا البت{[55723]} بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم ، كان التقدير : لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلاً { وكان الله } أي{[55724]} الذي له {[55725]}كل صفة{[55726]} كمال أزلاً وأبداً { {[55727]}بكل شيء } من ذلك وغيره { عليماً } فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء{[55728]} ، قال الأستاذ ولي الدين الملوي{[55729]} في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر : واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان{[55730]} جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده{[55731]} وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام - انتهى . وقد بينت في سورة النحل أن مدار{[55732]} مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية .