{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ } أي : غليظ شرس الخلق ، قاس غير منقاد للحق ، { زَنِيمٍ } أي : دعي ، ليس له أصل و [ لا ] مادة ينتج منها الخير ، بل أخلاقه أقبح الأخلاق ، ولا يرجى منه فلاح ، له زنمة أي : علامة في الشر ، يعرف بها .
وحاصل هذا ، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب ، خسيس النفس ، سيئ الأخلاق ، خصوصًا الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس ، والتكبر على الحق وعلى الخلق ، والاحتقار للناس ، كالغيبة والنميمة ، والطعن فيهم ، وكثرة المعاصي .
" عتل بعد ذلك زنيم " العتل الجافي الشديد في كفره . وقال الكلبي والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل . وقيل : إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب . مأخوذ من العتل وهو الجر ، ومنه قوله تعالى : " خذوه فاعتلوه{[15234]} " [ الدخان : 47 ] . وفي الصحاح : وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا . ورجل معتل ( بالكسر ) . وقال يصف{[15235]} فرسا :
نَفْرِعُه فَرْعاً ولسنا نَعْتِلُه
قال ابن السكيت : عتله وعتنه ، باللام والنون جميعا . والعتل الغليظ الجافي . والعتل أيضا : الرمح الغليظ . ورجل عَتِلٌ ( بالكسر ) بين العتل ، أي سريع إلى الشر . ويقال : لا أنعتل معك ، أي لا أبرح مكاني . وقال عبيد بن عمير : العتل الأكول الشروب ، القوي الشديد ، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا . وقال علي بن أبي طالب والحسن : العتل الفاحش السيئ الخلق . وقال معمر : هو الفاحش اللئيم . قال الشاعر :
بعُتُلّ من الرجال زنيم *** غير ذي نجدة وغير كريم
وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف{[15236]} لو أقسم على الله لأبره . ألا أخبركم بأهل النار - قالوا بلى قال - كل عتل جَوَّاظٍ مستكبر ) . وفي رواية عنه ( كل جواظ زنيم متكبر ) . الجَوَّاظُ : قيل هو الجموع المنوع . وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته . وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم ، ورواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم ) . فقال رجل : ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجواظ الذي جمع ومنع . والجعظري الغليظ . والعتل الزنيم الشديد الخلق ، الرحيب الجوف المصحَّح ، الأكول الشروب الواجد للطعام ، الظلوم للناس ) . وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس : ( لا يدخل الجنة جواظ ولا جَعْظَرِيّ ولا عتل زنيم ) سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وما الجواظ ؟ قال : الجماع المناع . قلت : وما الجعظري ؟ قال : الفظ الغليظ . قلت : وما العتل الزنيم ؟ قال : الرحيب الجوف ، الوثير الخلق ، الأكول الشروب ، الغشوم الظلوم .
قلت : فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم في العتل ، قد أربى على أقوال المفسرين . ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ . ذكره من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة الجَوَّاظُ ولا الجعظري ) قال : والجواظ الفظ الغليظ . ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا . وقد قيل : إنه الجافي القلب . وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى : " عتل بعد ذلك زنيم " قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه ، وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما ، فذلك العتل الزنيم . وتبكي السماء من الشيخ الزاني ، ما تكاد الأرض تقله ) . والزنيم الملصق بالقوم الدعي ، عن ابن عباس وغيره . قال الشاعر :
زنيمٌ تداعاه الرجال زيادةً *** كما زيد في عَرْضِ الأديم الأكارعُ
وعن ابن عباس أيضا : أنه رجل من قريش كانت له زَنَمَة كزَنَمَة الشاة . وروى عنه ابن جبير . أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها . وقال عكرمة : هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها . وقيل : إنه الذي يعرف بالأُبْنَة . وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وعنه أنه الظلوم . فهذه ستة أقوال . وقال مجاهد : زنيم كانت له ستة أصابع في يده ، في كل إبهام له إصبع زائدة . وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم . وكان الوليد{[15237]} دعيا في قريش ليس من سِنْخِهِم{[15238]} ؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده . قال الشاعر :
زنيمٌ ليس يعرف مَن أبوه *** بغيّ الأم ذو حسب لئيمِ
وأنت زنيمٌ نِيطَ في آل هاشمٍ كما *** نِيطَ خلف الراكب القَدَحُ الفَرْدُ
قلت : وهذا هو القول الأول بعينه . وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له ، والمعنى واحد . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده ) . وقال عبدالله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير ) . وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى ، فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) . وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنى قحط المطر .
قلت : أما الحديث الأول والثاني ، فما أظن لهما سندا يصح ، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول : ( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها . قالت : فقلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) خرجه البخاري . وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى ، كذا فسره العلماء . وقول عكرمة " قحط المطر " تبيين لما يكون به الهلاك . وهذا يحتاج إلى توقيف ، وهو أعلم من أين قاله . ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة ، وكان يطعم أهل منَى حَيْساً{[15239]} ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة ، ألا لا يدخنن أحد بكُراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة . وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر . ولا يعطي المسكين درهما واحدا ، فقيل : " مناع للخير " . وفيه نزل : " وويل للمشركين . الذين لا يؤتون الزكاة{[15240]} " [ فصلت : 6 ] . وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيما . وقال ابن عباس : في هذه الآية نعت ، فلم يعرف حتى قتل فعرف ، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها . وقال مُرَّة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة .
ولما كان كل من{[67474]} يتصف بهذه الدنايا التي من شأنها إبعاد الناس عنه و{[67475]}نفرتهم منه{[67476]} يسعى في سترها إن كان عاقلاً بلين وتواضع وخداع وسهولة انقياد ، بين أن هذا على غير{[67477]} ذلك ، فقال منبهاً على هذا بالبعدية : { عتل } أي أكول شديد الخصومة جاف غليظ{[67478]} في خلقه وخلقه ثقيل مر ، كأنه قطعة جبل {[67479]}قد انقطع{[67480]} عن سائره لا ينجر إلى خير إلا بعسر وصعوبة وعنف ، من عتله - إذا قاده بغلظة ، فهو في غاية ما يكون من يبس الطباع ، وعدم الطواعية في الخير والانطباع ، قال الرازي : وسئل عنه{[67481]} رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي عن العتل - فقال : " هو الشديد{[67482]} الخلق الرحيب الجوف الأكول الشروب ، الظلوم " ونبه سبحانه على ثباته في تلك المخازي ، الموجب لاستغراق أوقاته وأحواله بها بنزع الخافض فقال : { بعد ذلك } الخلق الجدير بتكلف الإبعاد عنه ، الذي تجمع من هذه الأوصاف التي بلغت نهاية القباحة ، حتى صارت كأنها خلق واحد ثابت راسخ ، لا حيلة له{[67483]} في مداواته ، وعلى ذلك نبه قوله : { زنيم * } أي صارت له علامة سوء وشر وثناء قبيح ، ولأمة بينة و{[67484]}معرفة{[67485]} يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها . وهي الجلدة التي تكون تحت حلقها مدلاة تنوس ، والعبد بمعايبه وسفساف{[67486]} أخلاقه ، وقيل : هو الذي يتشبه بقوم وليس منهم في شيء ، ولا يخلو التعبير به من إشارة{[67487]} إلى أنه دعي ليس ثابت النسب إلى من ينتسب إليه ، ليكون منقطعاً عن كل خير وإن كان ينسب إلى آباء كرام ، آخذاً من زنمة البعير ، وهي جلدة تقطع من أذنه فتترك{[67488]} معلقة ، ولا يفعل ذلك إلا بكرام الإبل ، وهذه الأفعال كلها تنافي الشجاعة المقتضية لإحسان صاحبها إلى كل أحد ، وأن لا يحسب له حساباً ولا يوصل إليه{[67489]} أذى إلا بعد ظهور شره ، فيعامله حينئذ بحسب العدل بما لا يرزىء بالمروءة . والمشار إليه بهذا مع إرادة العموم ، قيل : الوليد بن المغيرة ، وقيل : الأخنس بن شريق{[67490]} ، وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، و{[67491]}قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من{[67492]} عيوب الوليد بن المغيرة .