النفّاثات : الساحرات ، واحدها نفّاثَة ، وهي التي تنفُثُ بِرِيقِها على عُقَدِ الخِيطان لتسحَر .
ومن شر كلّ من يسعَى بين الناس بالإفساد ، ومنهم تلك السواحِرُ اللاتي يَنْفُثْن في العُقَد لضررِ عبادِ الله ، وليفرّقنَ بين المرءِ وزوجه .
وهناك رواياتٌ في سبب نزول هذه السورة والّتي تَليها تذكُر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سَحَرَه يهوديٌّ اسمه لَبيد بن الأعصم . فنزلت المعوِّذتان ، وزال السِّحر عندما قرأهما الرسول الكريم . ومع أن بعض هذه الروايات في الصحيح ولكنها مخالِفَة للعقيدة ، وتناقض العِصمةَ التي أُعطيت للرسول بقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ، والواقع أنّ هاتين السورتين مكيّتان ، وفي ذلك ما يُوهِنُ صحة الروايات .
السادسة : قوله تعالى : { ومن شر النفاثات في العقد } يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها . شبه النفخ كما يعمل من يرقي . قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا*** ت في عِضهِ العاضهِ المُعْضِهِ{[16606]}
نَفَثْتَ في الخيط شبيهَ الرُّقَى *** من خشيةِ الجِنَّة والحاسدِ
فإن يَبْرَأْ فلم أَنْفُثْ عليه *** وإن يُفْقَدْ فَحُقَّ لَهُ الفُقُودُ
السابعة : وروى النسائي عن أبي هريرة قال : فال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقد عقدة ثم نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق{[16607]} شيئا وكل إليه " .
واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم ، وأجازه آخرون . قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، ولا يمسح ، ولا يعقد .
قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث في الرقى .
وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجع ، فقلت : ألا أعَوِّذُك يا أبا محمد ؟ قال : لا شيء من ذلك ، ولكن لا تنفث ، فعوذته بالمعوذتين .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : القرآن ينفخ به أو ينفث ؟ قال : لا شيء من ذلك ، ولكن تقرؤه هكذا ، ثم قال بعد : انفث إن شئت .
وسئل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها ، فقال : لا أعلم بها بأسا .
وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة .
روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية ، رواه الأئمة ، وقد ذكرناه أول السورة وفي " الإسراء " . وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام ، زعم أنه لم يحفظه . وقال محمد بن الأشعث : ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء ، فرقتني ونفثت .
وأما ما روي عن عكرمة من قوله : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به ، فلا يكون بنفسه عُوذَة . وليس هذا هكذا ؛ لأن النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما . ولأن النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح ، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان ، فلا يقاس ما ينفع بما يضر . وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة . قال علي رضي الله عنه : اشتكيت ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول : اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني ، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني ، وإن كان بلاء فصبرني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( كيف قلت ) ؟ فقلت له ، فمسحني بيده ، ثم قال : " اللهم اشفه " ، فما عاد ذلك الوجع بعد . وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب ( من شر النافثات ) في وزن ( فاعلات ) . ورويت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما . وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية . قال ابن زيد : كن من اليهود ، يعني السواحر المذكورات . وقيل : هن بنات لبيد بن الأعصم .
{ ومن شر النفاثات في العقد } النفث شبه النفخ دون تفل وريق ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : هو النفخ مع ريق ، وهذا النفث ضرب من السحر ، وهو أن ينفث على عقد تعقد في خيط أو نحوه على اسم مسحور فيضره ذلك ، وحكى ابن عطية أنه حدثه ثقة أنه رأى عند بعض الناس بصحراء المغرب خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان- وهي أولاد الإبل- فمنعها بذلك رضاع أمهاتها ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه فرضع في الحين ، قال الزمخشري : إن في الاستعاذة من النفاثات ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يستعاذ من مثل عملهن ، وهو السحر ، ومن إثمهن في ذلك .
والثاني : أن يستعاذ من خداعهن للناس وفتنتهن .
والثالث : أن يستعاذ مما يصيب من الشر عند نفثهن ، والنفاثات بناء مبالغة ، والموصوف محذوف تقديره النساء النفاثات ، والجماعة النفاثات ، أو النفوس النفاثات ، والأول أصح ؛ لأنه روي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكن ساحرات سحرن هن وأبوهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعقدت له إحدى عشر عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشر آية بعدد العقد ، وشفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن قيل : لم عرف النفاثات بالألف واللام ونكر ما قبله وهو غاسق ، وما بعده وهو حاسد ، مع أن الجميع مستعاذ منه ؟ فالجواب : أنه عرف النفاثات ليفيد العموم ؛ لأن كل نفاثة شريرة ، بخلاف الغاسق والحاسد فإن شرهما في بعض دون بعض .
ولما كان كل ساحر شريراً بخلاف الغاسق والحاسد ، وكان السحر أضر من الغسق والحسد من جهة أنه شر كله ، ومن جهة أنه أخفى من غيره ، وكان ما هو منه من النساء أعظم ؛ لأن مبنى صحته وقوة تأثيره قلة العقل والدين ، ورداءة الطبع ، وضعف اليقين ، وسرعة الاستحالة ، وهن أعرق في كل من هذه الصفات وأرسخ ، وكان ما وجد منه من جمع وعلى وجه المبالغة أعظم من غيره عرف وبالغ وجمع وأنث ليدخل فيه ما دونه من باب الأولى ، فقال تعالى : { النفّاثات } أي النفوس الساحرة ، سواء كانت نفوس الرجال أو نفوس النساء ، أي التي تبالغ في النفث ، وهو التفل ، وهو النفخ مع بعض الريق ، هكذا في الكشاف . وقال صاحب القاموس : وهو كالنفخ ، وأقل من التفل ، وقال : تفل : بزق . وفي التفسير عن الزجاج أنه التفل بلا ريق . { في العقد * } أي تعقدها للسحر في الخيوط وما أشبهها ، وسبب نزول ذلك أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم فمرض كما ياتي تخريجه ، فإن السحر يؤثر بإذن الله تعالى المرض ، ويصل إلى أن يقتل ، فإذا أقر الساحر أنه قتل بسحره- وهو مما يقتل غالباً- قتل بذلك عند الشافعي ، ولا ينافي قوله تعالى :
{ والله يعصمك من الناس }[ المائدة : 67 ] ، كما مضى بيانه في المائدة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور ، فإنهم ما أرادوا إلا الجنون ، أو ما يشبهه من فساد العقل واختلاله ، والمبالغة في أن كل ما يقوله لا حقيقه له ، كما أن ما ينشأ عن المسحور يكون مختلطاً لا تعرف حقيقته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.