بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول الكريم ، وأن يتوكلوا عليه ، ولا يعتمدوا غير ذلك ، جاء هنا في هذه الآية الكريمة يهذّبهم ويعلّمهم بألطف توجيه ، أنَّ الأولادَ والزوجات فتنة للإنسان إذا ما شُغل بهم وانصرف يجمع المالَ لهم ويكدّسه ، لا همّ له إلا النفقة عليهم ، باتَ مثل الحيوان في الغاب ، فان الأسد يفترسُ حتى يطعم عياله ، وكذلك بقية الحيوانات .
فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا أن نُعِين المحتاجين ، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا ، فلا نعيش لأنفسنا فقط .
{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم }
فارعوهم حق الرعاية ، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب ، واحذروا أن يخرج بعضهم عن الطاعة ، وتلطّفوا معهم . ولذلك قال :
{ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
ما أرحمه وما أعظمه ! كيف يعلّمنا ويهذبنا ، بأن نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة .
وإن كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم ، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً ، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات .
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } نزلت في قوم آمنوا وأرادوا الهجرة فثبطهم أهلهم وأولادهم وقالوا لا نصبر على مفارقتكم فأخبر الله تعالى أنهم أعداء لهم بحملهم اياهم على المعصية وترك الطاعة { فاحذروهم } أن تقبلوا منهم ولا تطيعوهم ثم اذا هاجر الذي ثبطه أهله عن الهجرة رأى الناس قد تعلموا القرآن وتفقهوا في الدين فيهم أن يعاقب أهله فقال الله تعالى { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم }
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم 14 إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم 15 فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 16 إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم 17 عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } .
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا : ننشدك الله أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال ، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم ولا يهاجر . فأنزل الله هذه الآية .
وذكر عن ابن عباس أيضا قوله : هؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا في الدين ، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم فأنزل الله { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } {[4556]} فإن الله جل جلاله يحذر عباده المؤمنين الافتتان بالأزواج والأولاد والأهل والعشيرة . فإذا ما اعتزم المؤمنون الأوفياء أن يمضوا لأمر الله في هجرة أو جهاد أو غير ذلك من وجوه التضحية وقف في وجوههم الأزواج والأولاد والأهل والعشيرة ليصدوهم عن ذلك أو يثنوهم ويثبطوهم عما هم ماضون فيه من طاعة الله . وما ينبغي للمسلم الوفي الصادق الذي سلك سبيل الرحمان والتزم منهج الحق أن تثنيه نداءات الأهل والعشيرة أو الأصدقاء والخلان . إنما ينبغي للمسلم الصادق الذي يدعو إلى الله على بصيرة ، أن يمضي لأمر الله غير مضطرب ولا متزعزع ولا متحرّج .
وهو قوله سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } عدواة الأزواج والأولاد للرجال والآباء بصدهم عن سبيل الله وبفتنهم عن دينه وتثبيطهم عن طاعته . وبذلك يحذر الله المؤمنين أن يفتنهم الأزواج والأولاد أو يضلوهم عن صراط الله المستقيم وعن منهجه القويم الحكيم ، إنه لا ينبغي لمؤمن وفيّ صادق أن يغتر بنداء الأهل وأولي القربى إذا ما أرادوا له أن يثني عن عبادة الله وطاعته . وكذلك عداوة الأزواج والأولاد للزوجات والآباء بإغوائهم أو صدهم عن دين الله أو تثبيطهم عن القيام بطاعة الله . فما ينبغي لامرأة مسلمة صادقة تخشى الله أن تعبأ بإغواء زوجها أو تثبيطه لها إذا ما أراد أن يفتنها أو يضلها عن سبيل الله المستقيم . وما ينبغي للأب كذلك أن يحمله الحنين للولد على الجنوح والانثناء عن دين الله وعن منهجه الكريم .
قوله : { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } كان الرجل إذا ثبّطه أزواجه وأولاده عن الهجرة ورأى الناس قد سبقوه إليها وتفقهوا في دينهم سخط منهم لتثبيطهم إياه ، فهمّ أن يعاقبهم أو يوبخهم ، فأرشده الله إلى أن يعفو عما اقترفوه من صدّه عن الطاعة . فيصفح عن معاقبتهم ويستر عليهم إساءتهم فلا يعنفهم أو يبكّتهم { فإن الله غفور رحيم } الله يستر على ذنوب عباده وهو بهم رحيم فلا يعاقبهم عقب توبتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.