قوله تعالى : " تلك الرسل " قال : " تلك " ولم يقل : ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة ، وهي رفع بالابتداء . و " الرسل " نعته ، وخبر الابتداء الجملة . وقيل : الرسل عطف بيان ، و " فضلنا " الخبر . وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تخيروا بين الأنبياء ) و( لا تفضلوا بين أنبياء الله ) رواها الأئمة الثقات ، أي لا تقولوا : فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان . يقال : خير فلان بين فلان وفلان ، وفضل ، ( مشددا ) إذا قال ذلك . وقد اختلف العلماء في تأويله هذا المعنى ، فقال قوم : إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل . وقال ابن قتيبة : إنما أراد بقوله : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ؛ لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض ، وأراد بقوله : " لا تخيروني على موسى " على طريق التواضع ، كما قال أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم . وكذلك معنى قوله : ( لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى ) على معنى التواضع . وفي قوله تعالى : " ولا تكن كصاحب الحوت " {[2350]} [ القلم : 48 ] ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه ؛ لأن الله تعالى يقول : ولا تكن مثله ، فدل على أن قوله : ( لا تفضلوني عليه ) من طريق التواضع . ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا مني ، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة مني . وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من السؤدد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له ، وهذا التأويل اختاره المهلب . ومنهم من قال : إنما نهى عن الخوض في ذلك ؛ لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدي إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة . قال شيخنا : فلا يقال : النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير ، كما هو ظاهر النهي{[2351]} لما يتوهم من النقص في المفضول ؛ لأن النهي اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى ، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون ، فلا تقول : نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهي عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل ، والله بحقائق الأمور عليم . قلت : وأحسن من هذا قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم ، ومنهم من اتخذ خليلا ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم درجات ، قال الله تعالى : " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا " {[2352]} [ الإسراء : 55 ] وقال : " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " [ البقرة : 253 ] . قلت : وهذا قول حسن ، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطي من الوسائل ، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال : إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " {[2353]} [ الأنبياء : 29 ] . وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " {[2354]} [ الفتح : 1 - 2 ] . قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ . قال : قال الله تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " {[2355]} [ إبراهيم : 4 ] وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : " وما أرسلناك إلا كافة للناس " {[2356]} [ سبأ : 28 ] فأرسله إلى الجن والإنس ، ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده . وقال أبو هريرة : خير بني آدم نوج وإبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أولو العزم من الرسل ، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين ، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل ، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم ، وهذا مما لا خفاء فيه ، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال : إن القرآن يقتضي التفضيل ، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول ، وكذلك هي الأحاديث ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا أكرم ولد آدم على ربي ) وقال : ( أنا سيد ولد آدم ) ولم يعين ، وقال عليه السلام : ( لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ) وقال : ( لا تفضلوني على موسى ) . وقال ابن عطية : وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ؛ لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ{[2357]} تحت أعباء النبوة . فإذا كان التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى . قلت : ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى ، فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال : " منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات " [ البقرة : 253 ] وقال " وآتينا داود زبورا " {[2358]} [ الإسراء : 55 ] وقال تعالى : " وآتيناه الإنجيل " {[2359]} [ المائدة : 46 ] ، " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " {[2360]} [ الأنبياء : 48 ] وقال تعالى : " ولقد آتينا داود وسليمان علما " {[2361]} [ النمل : 15 ] وقال : " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح " {[2362]}[ الأحزاب : 7 ] فعم ثم خص وبدأ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ظاهر .
قلت : وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى ، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل ، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم ، وحسبك بقوله الحق : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار " {[2363]} [ الفتح : 29 ] إلى آخر السورة . وقال : " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " 3 [ الفتح : 26 ] ثم قال : " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " {[2364]} [ الحديد : 10 ] وقال : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " 3 [ الفتح : 18 ] فعم وخص ، ونفى عنهم الشين والنقص ، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين .
قوله تعالى : " منهم من كلم الله " المكلم موسى عليه السلام ، وقد سئل رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال : ( نعم نبي مكلم ) . قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصية موسى ، . وحذفت الهاء لطول الاسم ، والمعنى من كلمه الله .
قوله تعالى : " ورفع بعضهم درجات " قال النحاس : بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب{[2365]} مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت ، الشفاعة ) . ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف . وقال ابن عطية معناه ، وزاد : وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله . ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته ، ويكون الكلام تأكيدا . ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلي ، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء ، وسيأتي .
قوله تعالى : " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل . " وأيدناه " قويناه . " بروح القدس " جبريل عليه السلام ، وقد تقدم{[2366]} .
قوله تعالى : " ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعدهم " أي من بعد الرسل . وقيل : الضمير لموسى وعيسى ، والاثنان جمع . وقيل : من بعد جميع الرسل ، وهو ظاهر اللفظ . وقيل : إن القتال إنما وقع من الذين جاؤوا بعدهم وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلا ثم بعتها ، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد . وكسرت النون من " ولكن اختلفوا " لالتقاء الساكنين ، ويجوز حذفها في غير القرآن ، وأنشد سيبويه :
فلستُ بآتيه ولا أستطيعه *** ولاَكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْلِ{[2367]}
" فمنهم من آمن ومنهم من كفر " " مَن " في موضع رفع بالابتداء والصفة