الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ أَوۡ يَزِيدُونَ} (147)

قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } : وقد تقدم عن ابن عباس أن رسالة يونس عليه السلام إنما كانت بعد ما نبذه الحوت ، وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب . وقال النحاس : وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال : حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال عن يونس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، وخرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا ، فكف الله عز وجل عنهم العذاب ، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا ، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه ، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا . فقالوا : ما لسفينتكم ؟ فقالوا : لا ندري . فقال يونس عليه السلام : إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه . قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك . قال : فأقرعوا فمن قرع فليقع ، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه ، قال : فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع . فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع . وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] قال : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت . قال : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } ، قال : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش . قال : وأنبت الله عليه شجرة من يقطين فنبتت ، فكان يستظل بها ويصيب منها ، فيبست فبكى عليها ، فأوحى الله جل وعز إليه : أتبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال : وخرج رسول الله يونس فإذا هو بغلام يرعى ؛ قال : يا غلام من أنت ؟ قال : من قوم يونس . قال : فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس . قال : إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة فمن يشهد ؟ قال : هذه الشجرة وهذه البقعة . قال : فمرهما . فقال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فأشهدا له . قالتا نعم . قال : فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة وكان له إخوة ، فأتى الملك فقال : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام . قال : فأمر به أن يقتل ، فقالوا : إن له بينة فأرسلوا معه . فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما : نشدتكما بالله جل وعز أتشهدان أني لقيت يونس ؟ قالتا : نعم . قال : فرجع القوم مذعورين يقولون له : شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا . قال عبد الله : فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني . قال عبد الله : فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة . قال أبو جعفر النحاس : فقد تبين في هذا الحديث أن يونس كان قد أرسل قبل أن يلقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس . وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب ؛ لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم العذاب إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا ببن كل والدة وولدها ، وضجوا ضجة واحدة إلى الله عز وجل . وهذا هو الصحيح في الباب ، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عز وجل : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر : 85 ] وقول عز وجل : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت } [ النساء : 18 ] الآية . وقال بعض العلماء : إنهم رأوا مخائل العذاب فتابوا . وهذا لا يمنع ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا في سورة " يونس " فلينظر هناك .

قوله تعالى : { أو يزيدون } قد مضى في " البقرة " $ محامل " أو " في قوله تعالى : { أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] . وقال القراء : " أو " بمعنى بل ، وقال غيره : إنها بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر :

فلما اشتد أمر الحرب فينا *** تأملنا رِيَاحا أو رِزَامَا

أي ورزاما ، وهذا كقوله تعالى : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [ النحل : 77 ] ، وقرأ جعفر بن محمد { إلى مائة ألف ويزيدون } بغير همز ؛ ف " يزيدون " في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي وهم يزيدون . قال النحاس : ولا يصح هذان القولان عند البصريين ، وأنكروا كون " أو " بمعنى بل وبمعنى الواو ؛ لأن بل للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده ، وتعالى الله عز وجل عن ذلك ، أو خروج من شيء إلى شيء وليس هذا موضع ذلك ، والواو معناه خلاف معنى " أو " فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لبطلت المعاني ، ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائتي ألف أخصر . وقال المبرد : المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر ، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون . وقيل : هو كما تقول : جاءني زيد أو عمرو وأنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب . وقال الأخفش والزجاج : أي أو يزيدون في تقديركم . قال ابن عباس : زادوا على مائة ألف عشرين ألفا ، ورواه أبي بن كعب مرفوعا . وعن ابن عباس أيضا : ثلاثين ألفا . وقال الحسن والربيع : بضعا وثلاثين ألفا . وقال مقاتل بن حيان : سبعين ألفا .