الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَجَزَـٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (40)

الثانية- قوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قال العلماء : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قول " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " [ الشورى : 37 ] . وصنف ينتصرون من ظالمهم . ثم بين حد الانتصار بقول : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي . قال مقاتل وهشام بن حجير : هذا في المجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره من سب أو شتم . وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان . قال سفيان : وكان ابن شبرمة يقول : ليس بمكة مثل هشام . وتأول الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه ، واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان : ( خذي من ماله ما يكفيك وولدك ) فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه . وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في " البقرة " {[13540]} . وقال ابن أبي نجيح : إنه محمول على المقابلة في الجراح . وإذا قال : أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله . ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب . وقال السدي : إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به ، يعني كما كانت العرب تفعله . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها ، فالأول ساء هذا في مال أو بدن ، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا ، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى{[13541]} .

الثالثة- قوله تعالى : " فمن عفا وأصلح " قال ابن عباس : من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو " فأجره على الله " أي إن الله يأجره على ذلك . قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة وقد مضى في " آل عمران " {[13542]} في هذا ما فيه كفاية ، والحمد لله . وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس ، فيقال : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة ، قالوا : قبل الحساب ؟ قالوا : من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل ، قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا : كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيء إلينا عفونا . قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين . وذكر الحديث . " إنه لا يحب الظالمين " أي من بدأ بالظلم . قاله سعيد بن جبير . وقيل : لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد . قاله ابن عيسى .


[13540]:راجع ج 2 ص 355.
[13541]:راجع ج 2 ص 355.
[13542]:راجع ج 4 ص 207.